المرأة المزارعة كلمة السر في الأمن الغذائي التونسي

رغم أهمية القطاع الزراعي في تونس إلا أنه لم يشفع للعاملات للتمتع بظروف عمل ووسائل نقل لائقين وأجر محترم يحفظ لهن كرامتهن وحياتهن؛ إذ تعيش المرأة الريفية بصفة عامة والمرأة المزارعة بصفة خاصة رهينة تناقضات كبيرة رغم دورها المِحوري في إنتاج الثروة، وهي تعمل ضمن قطاع غير مُنظّم وفي ظروف قاسية نظرا لهشاشة وضعها الاجتماعي.
تونس – لا تزال المرأة العاملة في القطاع الزراعي في تونس تشكو من عدّة صعوبات، رغم إجماع الخبراء والمراقبين على دورها المهمّ في إنتاج الثروة ومساهمتها في بناء الاقتصاد المحلي، حيث يتواصل تهميش العاملات الريفيات وسط ظروف عمل هشّة دون تغطية اجتماعية أو صحيّة، ما يطرح بجدية ضرورة أن تضع الهياكل المشرفة على القطاع برامج جديدة تهدف إلى تقنين عملهن وحفظ كرامتهن.
تهميش متواصل
تعيش أكثر من مليون و700 ألف امرأة وفتاة في الأرياف، بنسبة 32 في المئة من مجمل النساء في تونس، و50 في المئة من مجمل سكان المناطق الريفية، كما يمثلن ما بين 62 و80 في المئة من اليد العاملة في القطاع الزراعي في البلاد. ورغم ذلك تعد المرأة الريفية من أكثر الفئات تهميشاً.
وتطرّق تقرير راصد الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في البلدان العربية إلى إنتاج زيت الزيتون في تونس، إذ ورد فيه أنّ مساهمة النساء في صناعته تعتبر هي الأكبر وتقدّر بـ2 مليار دينار تونسي، وذلك لكونهن مصدرًا للعمالة الرخيصة خلال مواسم الحصاد.

وجاء في التقرير أن النساء الريفيات يشكّلن 90 في المئة من عمال الحصاد ويعملن كعاملات زراعيات موسميات، كما يتلقين أجورهن بشكل يومي وهي غالبًا أقل مما يكسب الرجال الذين يقومون بالعمل ذاته، ويتم صرف جزء صغير من أجورهن على المواصلات ووسائل النقل التي تقلهن من قراهن إلى بساتين الزيتون وينظم ذلك عادة المستخدمون أصحاب المزارع.
وقال منير العبيدي، رئيس الاتحاد الجهوي للزراعة في الكاف (شمال غرب)، في تصريح خاص بـ”العرب”، “يجب حفظ سلامة المرأة العاملة في القطاع الزراعي وكرامتها، عبر توفير وسائل نقل ملائمة، وإصدار مناشير واضحة لتقنين العملية، فضلا عن توفير التغطية الاجتماعية والصحيّة”.
وأضاف “القطاع غير منتظم والعمل يكاد يكون موسميا، وهو ما يقتضي التنسيق بين مختلف الهياكل (الدولة ووزارة الشؤون الاجتماعية والمزارعين) للخروج بحلّ جذري وإيجاد صيغة مناسبة للمشكلة”.
وأقرّ منير العبيدي بـ”أهمية نشاط العاملات الشاقّ والذي يتطلّب تكوين هيكل معيّن للإشراف عليهنّ”.
واستنكرت شخصيات سياسية وحقوقية تواصل تهميش دور المرأة العاملة في القطاع الزراعي، وسط غياب التغطية الاجتماعية والصحية والتطبيق صارم للقانون في المساواة مع الرجل من حيث الحقوق والحريات.
وأفادت الناشطة الحقوقية بشرى بلحاج حميدة بأن “ما زاد في تأزم وضعية المرأة الريفية هو غياب التغطية الاجتماعية وقانون المساواة في الأجر بينها وبين الرجل الذي لم يطبّق”.
وأضافت، في تصريح لـ”العرب”، “هناك مشكلة في تطبيق القانون، ومن أرادوا تطبيق القانون تم الضغط عليهم، فضلا عن تفاقم مشكلة نقل العاملات الريفيات الذي لا يستجيب لشروط الحماية اللازمة”.
وأشارت بلحاج حميدة إلى أن “الدولة غائبة وغير قائمة بدورها، وعليها أن تضع خطة شاملة لحفظ كرامة الناس واحترام القانون وتطبيقه”.
واعتبر خبراء الاقتصاد أن المرأة العاملة تدفع ضريبة تهميش القطاع الذي مازال يشغّل اليد العاملة بأجور زهيدة مقارنة ببقية القطاعات الحيوية الأخرى.
وقال أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي “القطاع الزراعي يشغّل بالأساس النساء، وهو قطاع المستقبل ويحقق نسب نمو إيجابية، ولكن من المفارقات العجيبة وبعد تداعيات جائحة كورونا أصبحت الدول تفكّر في ما بعد تلك المرحلة، وتونس لم تنتهج نفس المسار”.
وأضاف لـ”العرب”، “القطاع الزراعي مازال يشغّل اليد العاملة أقل من المجالات الأخرى، ونسبة التأطير ضعيفة، والمرأة في أدنى مستويات التعليم وهي الحلقة الأضعف في ذلك”.
وأردف الشكندالي “القطاع غير مهيكل بنسبة 80 في المئة، ومواز بأتم معنى الكلمة، نظرا لضعف التغطية الاجتماعية وخروجه عن المنظومة المعترف بها”، لافتا إلى وجوب “أن تحاول الدولة إعطاء الأراضي التي تمتلكها للشباب في إطار الاقتصاد التضامني”.
واستطرد “الزراعة مازالت قطاعا تحكمه معادلة تحديد الأسعار”.
وكانت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن قد أعلنت عام 2018 عن دعم النساء والفتيات في المناطق الريفية من خلال 3550 قرضا بقيمة تتجاوز 8 ملايين دولار، عبر برنامج تمكين المرأة الريفية لحثها على إنشاء مشاريع صغرى. ويهدف البرنامج إلى تنمية القدرات والمهارات الإنتاجية وإدارتها، ودعم انخراط النساء في الاقتصاد، وضمان ظروف العمل اللائق للمرأة الريفية بما في ذلك حمايتها من الأخطار الممكنة في النشاط الزراعي.
ويتم تنفيذ البرنامج على مراحل سنويا، ففي كل عام تُدعم مجموعة من النساء في أحد الأرياف سواء في الشمال أو في الجنوب.
وفي مارس الماضي مكّنت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن 16 امرأة من أرياف معتمديتي ذهيبة ورمادة في محافظة تطاوين في الجنوب التونسي من مشاريع صغرى بكلفة تناهز 140 ألف دولار.
وأكّد الخبير الاقتصادي ووزير التشغيل السابق فوزي بن عبدالرحمن أن “العاملة الزراعية تكاد تكون العائل الوحيد في الأسرة، خاصة أمام عزوف الشباب والرجال عن العمل الزراعي، حيث أصبحت تعوّض الرجل في العمل”.
وقال في تصريح لـ”العرب”، “المرأة الريفية مظلومة لأنها تعمل في ظروف قاسية ووضعيات هشّة، كما أنها تتحمّل تبعات غياب خطة أو استراتيجية في القطاع، والزراعة في تونس لا تعتبر قطاعا اقتصاديا بل هي سياسة اجتماعية موجّهة للمستهلك بالأساس، واليوم هي الحلقة الأضعف”.
واقترح الخبير الاقتصادي “ضرورة توفير وسائل نقل ملائمة للعاملات الزراعيات، على غرار الحافلات وتبسيط الإجراءات لاقتناء تلك الوسائل، فضلا عن الإحاطة بتلك الفئة من النساء وإعادة تأهيلها في مراكز التكوين المهني الزراعي (38 مركز تكوين)، إلى جانب عنصر التخصّص في المجال وتحسين القدرة الشرائية للمنتج كفاعل اقتصادي لتشجيع المنظومة الإنتاجية”.
البحث عن الحقوق
أعلنت الوزارة عن إطلاق البرنامج الوطني الجديد لريادة الأعمال النسائية والاستثمار الذي يراعي النوع الاجتماعي “رائدات”، مشيرة إلى أن البرنامج يهدف إلى تيسير وصول النساء إلى وسائل الإنتاج لإحداث نقلة نوعيّة في مجال تمويل المشاريع النسائية الصغرى والمتوسطة وذات الطاقة التشغيلية العالية، بهدف الحد من نسبة البطالة بين الفتيات والنساء، سواء منهن ذوات المستوى العلمي الضعيف والمتوسط أو حاملات الشهادات.
وسيعمل البرنامج الوطني الجديد خلال السنوات الخمس المقبلة على خلق أكثر من 6 آلاف مشروع باعتمادات تقدر بـ16 مليون دولار، وبمعدّل 600 مشروع سنوياً، مع إسناد دفعات جديدة من القروض المتوسطة والكبرى.
وانطلق البرنامج فعلياً عام 2018، وتمكن من إنشاء 4868 مشروعاً نسائياً منها 3932 مشروعاً صغيراً للغاية و531 مشروعا صغيرا ومتوسطا باعتمادات تجاوزت 14 مليون دولار. كما ساهم في خلق نحو 6216 فرصة عمل مباشرة.
ويستمر عمل البرنامج حتى عام 2025، ويهدف إلى إنشاء 600 مشروع سنوي، فضلا عن تمويل ذاتي من الوزارة لصاحبات الشهادات.
وتختلف تلك المشاريع التي تدعمها وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن بحسب طلب كل امرأة ريفية نظراً إلى قدراتها، على غرار النسيج التقليدي وصناعة الفخار وتربية المواشي والأنشطة الزراعية.
وتتصاعد من حين إلى آخر الدعوات المطالبة بتحسين ظروف عمل النساء في الزراعة، وقد وصلت إلى حد دعوتهن إلى الاحتجاج في الشارع من أجل تحقيق مطالبهن.
وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن أعلنت عام 2018 عن دعم النساء والفتيات في المناطق الريفية من خلال 3550 قرضا بقيمة تتجاوز 8 ملايين دولار
وسبق أن أكد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي، خلال حضوره في الندوة الوطنية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة تحت شعار “من أجل بيئة عمل آمنة خالية من العنف والتحرش”، أنه من الضروري الالتفات إلى مشاكل المرأة العاملة في القطاع الزراعي التي مازالت حقوقها مهضومة وأجورها زهيدة رغم مجهوداتها، لافتا إلى أنه رغم وجود ترسانة من القوانين لحماية العاملات الزراعيات إلا أنها بقيت على الرفوف.
ودعا الطبوبي النساء العاملات في القطاع الزراعي إلى الاحتجاج في شارع الحبيب بورقيبة والقيام بثورة، مطالبا بتحديد يوم غضب قبل حلول شهر رمضان للتعبير عن رفضهن للواقع المعيش خاصة في الأرياف.
وقال الطبوبي إن الاتحاد سيتكفل بنقل كل العاملات في القطاع الزراعي من كامل جهات الجمهورية ليثرن في شارع الثورة ويدافعن عن حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية.
وأكدت منسقة المكتب الوطني للمرأة العاملة زبيدة نقيب أن “النساء العاملات في القطاع الزراعي بدأن يتنظمن في نقابات في الاتحادات الجهوية”.
وكشفت زبيدة نقيب في تصريح لإذاعة محلية عن “تكوين قرابة 11 نقابة آخرها في جهة باجة (شمال غرب)، وذلك إيمانا من النساء الزراعيات بأن التفاوض الجماعي يمكنهن من حقوقهن”، مضيفة أن “المكتب الوطني للمرأة العاملة يعمل على توفير عمل لائق، وتغطية اجتماعية صحية، وبيئة عمل آمنة وأجر قانوني، خاصة وأن النساء العاملات في القطاع الزراعي، قد وقع التعامل مع مشاكلهن إعلاميا وسياسيا دون أن يتمتعن بحقوقهن”.
وكانت وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن آمال بلحاج موسى أعلنت في أكتوبر الماضي عن “تفاؤلها الكبير” بأن القطاع الزراعي على مستوى الجندر مقبل على تغييرات إيجابية لصالح المرأة المزارعة والأسرة والمجتمع، معتبرة أن “أكبر تحد هو الترفيع في نسبة المزارعات صاحبات المشاريع وامتلاك الأرض الزراعية ووسائل الإنتاج”.
وأضافت الوزيرة أنه عندما تأتي الأرقام من مؤسسات التعليم العالي وتقول إن الطالبات اللواتي يدرسن العلوم الزراعية يمثلن الأغلبية الساحقة بمعدل 75 في المئة مقارنة بعدد الطلبة الذكور فإنها تزداد تفاؤلا لأن ذلك يدل على أن الأجيال الصاعدة من الشابات ليست عازفة عن الأنشطة الزراعية. وهو ما يفيد بأن دور المرأة المزارعة سيعرف نقلة نوعية ووضعيتها ستشهد تحولا يليق بما تقدمه لتونس من أمن غذائي.