المرأة العربية الغارمة سجينة فقر وضحية عادات بالية

دفع الديون والتحرير من السجن يكرسان الظاهرة ويؤديان إلى توريث الفكرة.
الأحد 2022/11/27
دفع ثمن الفقر

تؤرق ظاهرة الغارمات المجتمع، وتكشف عن خلل جسيم في بنيته وتبرز مدى الأمية المالية للمرأة، وقلة الوعي بالأوراق القانونية التي يتم التوقيع عليها، وكذلك المبالغة في مطالب الزواج التي تضغط على الأسرة للاستدانة.

القاهرة - على مدى عامين كاملين، قضت ليلى الجندي التي تعيش برفقة أولادها في إحدى قرى مصر عقوبة الحبس بعد أن عجزت عن سداد ديونها لتاجر اشترت منه مستلزمات زواج ابنتها الكبرى، وهي المشكلة ذاتها التي تسببت في الزج داخل السجون بالعديد من النساء في مجتمعات عربية مختلفة لجأن للاستدانة لتجاوز الفقر.

لم تستفد المصرية ليلى من التبرعات التي تجمعها المؤسسات الخيرية والجمعيات الحقوقية، للإفراج عن المئات من الغارمات من السجون كما يحدث في المناسبات الدينية والأعياد، ما اضطرها إلى قضاء عقوبة الحبس كاملة، مثل كثير من الغارمات، وهو اللفظ الذي أصبح متداولا للمرأة التي تستدين ولا تستطيع سداد ديونها فتوضع في السجن وتنال عقوبة يقدرها القاضي وفقا لقوانين هذه الدولة أو تلك.

وأصبح مجلس النواب المصري على مقربة من مناقشة مشروع قانون يستبدل حبس الغارمة بعقوبات أخرى بديلة لتجنب الزج بالمرأة في السجون وعقابها على الفقر.

نوال مصطفى: يصعب حل أزمة الغارمات عبر التكفل بدفع ديونهن، لأن ذلك علاج مؤقت لمرض مزمن
نوال مصطفى: يصعب حل أزمة الغارمات عبر التكفل بدفع ديونهن، لأن ذلك علاج مؤقت لمرض مزمن

لكنّ هناك دولا عربية لا تزال عاجزة عن وضع حلول جذرية للمشكلة، بينما ابتكرت السعودية منصة إلكترونية تدون بها بيانات الغارمات بما يسمح بتلقي التبرعات لهن.

وتعتمد المنصة السعودية على وضع بيانات جميع النساء الغارمات، ومن خلالها يستطيع أي شخص أن يختار إحداهن ليتكفل بدفع ديونها، ثم يتم الإفراج عنها، لكن ذلك لم يعالج المشكلة، إذ أن هناك الآلاف من النساء اللاتي قد لا تصل إليهن تبرعات، ولا يتكفل بديونهن أحد، وبالتالي تظل كل منهن سجينة لحين قضاء فترة العقوبة.

وصمة في جبين الأسرة

قالت السجينة السابقة ليلى لـ”العرب” إن مشكلة المرأة الغارمة ليست في قضاء فترة عقوبة لمجرد أنها استدانت وعجزت عن السداد، بل تعاني من الوصمة الأسرية بعد خروجها من الحبس وهي منهكة نفسيا ومعنويا لأنها قد تكون العائل الوحيد للأبناء الذين يتوارثون وصمتها، فالعقوبة تكون لها ولأبنائها أيضا.

ومن بين 25 مليون أسرة مصرية، هناك 3.5 مليون تعولها امرأة، أي أنها تمثل العمود الفقري للأسرة، وتتحمل وحدها المسؤولية كاملة، سواء أكان ذلك في وجود زوج سلبي أو مريض أو أنها مطلقة أو توفي شريكها، وفي كل الأحوال تكون مدفوعة بتدبير احتياجات أسرتها من ملبس ومأكل ومشرب وصحة وزواج، وغيرها.

ولا توجد قوانين محددة تقي المرأة من مغبة الوقوع في براثن الاستدانة، ما يجعلها ضحية للفقر وقلة الحيلة وتحمل المسؤولية، وفوق كل ذلك تعاني من عادات وتقاليد وموروثات بالية، بينها حب التظاهر والتباهي والتفاخر بين الأهل والجيران بشراء مستلزمات تفوق القدرات المالية للأسرة التي تكون المرأة عائلها الوحيدة.

وتنحصر أزمة ليلى في أنها اضطرت عند زواج ابنتها لشراء كل المستلزمات التي تحتاجها الفتاة في بيت الزوجية، بغض النظر عن فقرها وضعف إمكانيات أسرتها، قائلة “كنت أريدها سعيدة وتفخر بمنزلها، ولم أفكر في المستقبل، هل سيتم حبسي أم لا، المهم أنني أوفيت بوعدي معها واشتريت لها كل شيء، وللأسف كنت أدوّن على نفسي إيصالات أمانة للتجار”.

وحوكمت الأم بنص المادة 341 من قانون العقوبات التي تنص على حبس “خائن الأمانة” بعقوبة متصاعدة تبدأ من عام، وفي نظر القانون أي شخص يعجز عن سداد ديونه “خائن للأمانة ويستوجب عقابه بالحبس وإلزامه برد ما عليه من ديون”، مع أن النسبة الأكبر من الغارمات لم يرتكبن الخيانة، لأنهن فقيرات ويعاقبن على عدم القدرة على تحمل المسؤولية.

ظلم للمرأة وجريمة

بوكس

أكدت نوال مصطفى عضو لجنة الغارمات التي تشكلت بقرار من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لحل أزمة هؤلاء النساء، أن التعامل مع المرأة التي تراكمت عليها الديون باعتبارها خائنة للأمانة، “ظلم لا يمكن تحمله، لأنها ضحية الفقر والجهل وغياب الوعي والعادات، وضحية أيضا لغياب ثقافة الاستهلاك الرشيد”.

وأوضحت لـ”العرب”، وهي أيضا رئيسة جمعية رعاية أبناء السجينات، أن استخدام إيصالات الأمانة بطريقة تستغل جهل المرأة وتضحيتها من أجل أسرتها وأولادها، قمة الابتزاز الذي يستوجب أن توضع له عقوبة صارمة، ويصعب حل أزمة الغارمات عبر التكفل بدفع ديونهن، لأن ذلك علاج مؤقت لمرض مزمن يكرس للظاهرة.

ويبرر أنصار هذا الرأي موقفهم بأن المرأة التي تعرضت لوعكة اقتصادية واستدانت بما يفوق إمكانياتها المادية وتتعرض للحبس ويتم دفع الغرامة عنها لتخرج من السجن، ينطوي على توريث الفكرة لأجيال أخرى قادمة، ولا يضع حلولا جذرية لها، وقد تعتمد بعض السيدات على التبرع بعد حبسها لتستسهل الاستدانة، على اعتبار أنها لن تُعاقب.

وتعاني غارمات كثيرات من قسوة القانون والمجتمع معا، فهن بنظر القاضي جناة، مثل القاتل وتاجر المخدرات والسارق وقاطع الطريق، وتتم معاقبتهن بالحبس دون حد أقصى لسنوات السجن، فقد توقّع المرأة مجموعة إيصالات أمانة لشخص واحد، كل إيصال منها بمبلغ معين، وإذا عجزت عن السداد يقوم بمقاضاتها عن كل إيصال على حدة لتصدر ضدها أحكام تراكمية متعددة، فإذا وقّعت على عشرة إيصالات وحكم عليها في كل قضية بالحبس ثلاث سنوات، سوف تصل مدة حبسها إلى ثلاثين عاما.

وذكرت نوال لـ”العرب” أن علاج ظاهرة الغارمات يبدأ من تمكين المرأة اقتصاديا، تحديدا النساء الفقيرات، قائلة “التمكين يجعلها قادرة على جلب موارد غير تقليدية لها ولأسرتها، ولا يدفعها مطلقا للاستدانة، وعبور الأزمات المالية دون تعريض نفسها وأولادها للخطر، وهذا دور الحكومة والمنظمات الأهلية والمجتمع المدني”.

ويتطلب تحقيق التمكين الاقتصادي للمرأة فترة طويلة لإقناع المجتمع بحق النساء في ذلك، فالواجب على أي حكومة أن تقر عقوبات بديلة عن حبس الغارمات طالما أن السجن يجلب لها العار ويجعلها متهمة، وإن كانت ضحية السعي إلى حياة كريمة لأولادها، ودفعت فاتورة باهظة لتحملها المسؤولية والمخاطرة بنفسها.

وتذكرت ليلى في حديثها مع “العرب” أن ما دفعها كأم للتوقيع على إيصالات أمانة لتاجر الأجهزة الكهربائية أن زوجها رفض شراء مستلزمات ابنتها قبل زواجها بذريعة أنه لا يمتلك المال الكافي، وكادت خطبتها تنتهي بالفشل فاضطرت للاستدانة لشراء باقي احتياجات ابنتها وإتمام الزواج في الموعد المحدد. هكذا تفعل الكثير من السيدات، بدافع التباهي أحيانا أو كتقليد أسري سائد.

العقوبات البديلة

◙ قسوة القانون والمجتمع
 قسوة القانون والمجتمع

تطرح منظمات حقوقية في بلدان عربية، على فترات متباعدة، فكرة العقوبات البديلة كحل مؤقت لأزمة الغارمات بأن تقضي المرأة التي عليها الديون فترة العقوبة بالعمل في حرفة أو في جهة ما لتحصل على عائد مادي يستغل لسداد ديونها، وثمة من اقترح تقديم برامج تدريبية مكثفة للسيدات لتكون خطوة لتشغيلهن وتمكينهن اقتصاديا.

ويهدف التشريع المصري المنتظر إلى استبدال الحبس الجنائي بعقوبة مدنية بعيدا عن وجودها وسط المحكوم عليهن في قضايا جنائية، مثل القتل والسرقة والنصب وتجارة المخدرات، حيث تتنوع العقوبات المقترحة للغارمات، بين عاملات نظافة في المصالح الحكومية مثل المستشفيات وشركات القطاع العام أو العمل في ورش الغزل والنسيج، ويوضعن تحت رقابة الأمن ويحصلن على عائد ينفقن منه ويسددن ديونهن.

ولا تدرك المرأة الغارمة أنها عندما تبحث الاستدانة لتجاوز عقبة الفقر وقلة الحيلة، فإن ذلك مخاطرة غير محسوبة العواقب، فبغض النظر عن حبسها، فالوصمة ستطال ابنتها التي كافحت من أجل زواجها، وتطال أولادها، ومهما حاولت تبرئة ساحاتها ستظل كانت متهمة بجريمة خيانة الأمانة.

نبرة التهديد الموجهة للمرأة الفقيرة لحمايتها من دوامة الحبس ليست موجودة في قاموس الإعلام والمؤسسات المفترض أنها مسؤولة عن الخطاب التوعوي، وهو ما يراه حسن البيلاوي أستاذ علم الاجتماع والأمين العام للمجلس العربي للتنمية من العناصر التي تحمل مخاطر لا حصر لها، قائلا “المرأة تدفع فاتورة باهظة لميراث التخلف المجتمعي، وكلما زاد التخلف، أصبحت النساء ضحايا”.

ويؤمن البيلاوي بأن حل أزمة المرأة المعيلة في المجتمعات العربية ليس له جدوى دون الاعتراف بحجم المسؤوليات والتضحيات التي تقوم بها النساء لحياة أفضل لعائلاتهن، وهذا يفرض على الحكومة أن تكافئهن لا تحبسهن وتعاقبهن على فقرهن، وعليها التفرقة بين من تعرضت لأزمة مالية وتلك التي تمارس هواية الاحتيال.

ويشير خبير علم الاجتماع لـ”العرب” إلى أن انخفاض منسوب الضخ الثقافي والتوعوي للمرأة العربية الفقيرة يجلب عليها المزيد من العقوبات، مثل الحبس أو الوصم أو التمييز، فأي غارمة ضحية لمظاهر خادعة نتاج منسوب التخلف بالمجتمع، معقبا “الغارمات مجني عليهن، لا جانيات، ولا يجب محاكمتهن على سذاجتهن، فالكثيرات منهن قُمن بمواقف بطولية”.

قسوة داخل السجن وخارجه

الحكومة تتعامل مع قضايا الغارمات من منظور قانوني بحت، على الرغم من أن حبسهن يكلف خزينة الدولة مبالغ مالية طائلة

الزوجة المصرية مريم حسنين، عندما تعرض زوجها لوعكة صحية والتزم الفراش ولم يعد قادرا على العمل، اضطرت لفتح محل صغير لبيع الملابس الجاهزة، ولجأت إلى اقتراض أموال لشراء البضاعة من التجار لتنقذ أسرتها من جحيم الفقر، لكنها لم تستطع تسويق الملابس، وفشل المشروع لعدم خبرتها في المجال، ولجأ الشخص الذي أقرضها المال إلى القضاء، وحكم عليها بالحبس ثلاثة أعوام قبل أن تضع مولودها بأشهر قليلة، وتربى معها داخل السجن.

ولم يكن السجن بالنسبة إلى الزوجة قاسيا، بقدر تلك المعاملة الغليظة التي تعرضت لها من زوجها بدعوى أنها وصمت العائلة، حتى تكفلت إحدى الجمعيات الأهلية بالتبرع بسداد المبلغ لتاجر الملابس وأفرج عن مريم.

وعن ذلك قالت لـ”العرب” “للأسف، المرأة في البيئات الفقيرة تظل الحلقة الأضعف، فتعاقبها الحكومة والقانون والعائلة والمجتمع، لأنها تتحمل المسؤولية”.

وذكرت نوال أن المشكلة الأكبر تكمن في وجود حالة تنكر شديدة من بعض العائلات تجاه المرأة الغارمة في المناطق العشوائية والريفية، فلا يتم السؤال عنها خلال فترة حبسها، ما يؤثر على حالتها النفسية بشكل يصعب تحمله، كما أن أخلاقيات التكفل بسداد قيمة المديونية تبدو غير موجودة، فلا بديل عن تمكين النساء اقتصاديا للتغلب على أزماتهن بقوة.

ويتفق عالم الاجتماع البيلاوي مع هذا الطرح، فسواء تم إلغاء حبس المرأة الغارمة أو كانت هناك عقوبة بديلة، لن يكون ذلك كافيا لتصبح الدول العربية بلا سجينات فقر، فالأمر بحاجة إلى وعي مجتمعي مكثف وحملات توعية متشعبة ومن جهات مختلفة، ثقافيا وإعلاميا ودينيا لتتوقف النساء عن الاستدانة بما يفوق الموارد المالية لهن، ولا بديل عن توفير بدائل لتمويلهن حكوميا إذا كانت هناك إرادة لبناء مجتمع بلا غارمات.

وتتعامل الحكومة المصرية مع قضايا الغارمات من منظور قانوني بحت، على الرغم من أن حبس المرأة الغارمة يكلف خزينة الدولة مبالغ مالية طائلة للإنفاق على توفير الطعام والشراب والأدوية والملابس والإقامة لها ولأطفالها داخل السجن، وأغلب السجينات يتم حبسهن بسبب ديون هزيلة، ويمكن أن تقبع الغارمة في السجن سنوات بسبب مبلغ يفوق ما تنفقه الحكومة على السجينة إلى حين انتهاء فترة حبسها.

امرأة

17