المرأة الحرة

نحن باختصار نريد مجتمعات حرة يطيب فيها العيش، ترتقي بمستوياتنا الاقتصادية والثقافية والفكرية وتلحق بركب الحضارة، لا نريد مجتمعات تعامل المرأة كسلعة.
الأربعاء 2025/01/29
ليس من حق أحد أن يفرض على الآخر ماذا يرتدي

وصلنا الصراع بين “لباس المرأة المسلمة” و”لباس المرأة الحرة” الذي انطلقت شرارته في سوريا بعد فترة قصيرة من سقوط النظام السابق وأثار جدلا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بدأت صفحات موجهة تتداول صور الحملتين المتنافستين، مع ميول الغالبية نحو “لباس المرأة المسلمة.”

ملصقات دعائية هنا وهناك ألصقت على حيطان سورية وعلى حيطان افتراضية، لا يعرف من وراءها، لكن المرجح أن لباس المرأة المسلمة وراءه أحزاب أو منظمات وجهات إسلامية بينما الحملة المضادة التي جاءت كرد على الأولى هي لمنظمات أو جهات تناصر حرية المرأة أو ربما هي منظمات نسوية.

تدعو الملصقات الأولى النساء إلى الالتزام باللباس المحتشم وتحدد شروطه، ومنها أن يكون ساترا لجميع البدن وأن لا يشبه لباس الرجال وأن يكون واسعا غير ضيق وأن لا يكون معطرا. أما الملصقات “المنافسة” فمن بين شروطها أن لا يكون اللباس مفروضا على المرأة وأن يعجبها وأن يشعرها بالثقة والراحة ويعبر عن شخصيتها.

صراع أيديولوجي تجاوز حدود سوريا لينتقل نحو دول عربية، وكأن كل مشاكلنا قد حلت ولم يجد صناع القرار مشاكل غير لباس المرأة ليبحثوا له عن حل. من ماذا يشكو لباس المرأة السورية أو العربية طوال العقود الماضية كي نعود اليوم للحديث عن ماذا يجب أن تلبس ونحدده لها؟ أليست المرأة حرة، من حقها أن تختار لباسها المناسب وفق ضوابط مجتمعها، ومن ثمة تتحمل مسؤوليتها كاملة؟

لماذا كلما تحرر مجتمع عربي من نظام سياسي ديكتاتوري سارع إلى التفكير في لباس النساء؟ لقد عشنا الأمر ذاته في تونس طوال العقد الماضي، وكذلك عاشت مصر. ألهذا الحد يرى الرجال أن الكون خلق من أجلهم والنساء مجرد متاع أم أنهم –حتى وإن قادوا العالم- لم يرتقوا إلى درجة التحكم في غرائزهم وتثيرهم بعض خصيلات شعر متناثرة مع الريح؟

يذكرني هذا الحال بالمثل الشعبي المغربي “السلهام والعمامة وقلة الفهامة”، ترى الرجل منهم يرتدي زيا محترما لكنه قليل الفهم وفكره منحصر في كل ما يتعلق بالنساء فقط.

أسئلة كثيرة قد تخطر في عقل أي امرأة ترى أنها مسؤولة عن نفسها، فحتى الإسلام لم يحرمها حقها في أن تكون مسؤولة عن ذاتها وأفكارها وأفعالها.

واحترام المرأة لنفسها يبدو جليا في لباسها، لا يعني ذلك أن تتشح بالسواد ولا أن تعري جسدها، والزيّ الذي تختاره المرأة لنفسها دليل واضح على الدور الذي تريد تمثيله في المجتمع وتمثله، كما يقول المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي.

واليوم هناك شيفرة لكل لباس “dress code” تعلمنا أن لكل مقام مقال، وتراعي اختلافات الأذواق والأديان، لكن مثل هذه النقاشات رغم ما بلغته المرأة من علم وتعلم وإثبات للذات يعيدها إلى خانة العورة والمتاع، وتؤكد أننا وكما يقول بن نبي لا زلنا نتوارث أفكارا “ميتة” وأخرى “مميتة”، فالأولى فقدت مبررات استمرارها ولا تصلح لزماننا أما الثانية فهي تسعى لهدم للبناء الاجتماعي وتعميق للصراعات الفكرية والاجتماعية، هي أفكار تبعدنا عن قضايانا الإنسانية الأهم.

من حق أي مجتمع أن يضع ضوابط للباس تمنع العري الفاضح وكذلك التخفي المبالغ فيه، لكن ليس من حق أحد أن يفرض على الآخر ماذا يرتدي أو يخاطبه باسم الله.

نحن باختصار نريد مجتمعات حرة يطيب فيها العيش، ترتقي بمستوياتنا الاقتصادية والثقافية والفكرية وتلحق بركب الحضارة، لا نريد مجتمعات تعامل المرأة كسلعة، كل “مستثمر” يبيعها ويشتريها كما يشاء. نريد الحرية في الاختيار، انطلاقا من أن الحرية شأن أساسي يميز الإنسان عن الحيوان، وهي كما يقول جان جاك روسو “حق غير قابل للتفاوض، فإذا تخلى الإنسان عن حريته فقد تخلى عن إنسانيته وعن حقوقه كإنسان.”

18