المخرج ناقدا لأفلامه

لا يوجد فيلم يمكن اعتباره متعاليا على الجمهور، فالجمهور أيضا طبقات وأنواع واتجاهات وليس كتلة واحدة، كما أن الفيلم يأتي طبقا لرؤية مبدعه، وهاجسه الفني.
الأربعاء 2019/02/27
نقد النقد

هل يمكن أن يكون المخرج السينمائي ناقدا لأفلامه، أي أن يصنعها ثم يكتب عنها ويحللها ويقدم شروحا لها للمتفرج؟

كثيرا ما يقف المخرجون في المهرجانات السينمائية للحديث عن أفلامهم، الحصيف الذكي منهم يكتفي بكلمة بسيطة قصيرة يتمنى فيها للجمهور مشاهدة ممتعة.

ولكن هناك مخرجون كثيرون خاصة من العالم العربي والعالم الثالث عموما، ينتهزون الفرصة لإلقاء خطابات مطولة، سواء للتباكي واستدرار التعاطف بسبب ما يشيرون إليه تفصيلا من ضعف الإمكانيات التي صنعوا بها أفلامهم، والمشاق الهائلة التي واجهوها في صنع الفيلم، بل ويصل بعضهم أيضا إلى حد محاولة إثارة تعاطف الجمهور والضغط من أجل الحصول على جائزة ما قد تكون مثلا “جائزة الجمهور” التي تعادلها قيمة مالية يحتاجها المخرج المسكين كثيرا إلى حد البكاء والتضرع!

شخصيا أشعر بالنفور الشديد من هذا النوع من مخرجي الصوت العالي، والتضرع واستدرار الدموع، والابتزاز العاطفي، وادعاء البطولة، ففيلمك في نهاية الأمر هو الذي يتحدث عن نفسه، وليست هناك أي بطولة في صنع الأفلام، ومهما قلت وأطنبت وشرحت فلن يمكنك أن تجعل الجمهور يغيّر رأيه، فإن كان الفيلم جيدا فسيصفقون له، وإن كان رديئا سينصرفون عنه دون أن يبقى منه شيء في خيالهم.

بعض كبار المخرجين في العالم كتبوا عن أفلامهم، وهم قلائل جدا، أشهرهم المخرج السينمائي الروسي الكبير سيرغي أيزنشتاين الذي وضع كتبا معروفة في جماليات السينما كان يتطرق فيها إلى أفلامه ويستخدم بعض الأمثلة منها، لأن أيزنشتاين لم يكن مجرد مخرج، بل مفكر سينمائي كبير لعب دورا في تطوير هذا الفن في بداياته، بل ووضع نظرية خاصة له ترتبط بدور المونتاج. من دون كتابات أيزنشتاين يمكننا بالطبع أن نستوعب أفلامه، لكنه عن طريق كتاباته، أضاف الكثير -ليس إلى أفلامه- بل إلى دور السينما كفن وتقنياتها ووظيفتها وطريقة استقبالنا لها، وهو أمر ليس بالهين، وليس كل المخرجين مثل أيزنشتاين.

بعض كبار المخرجين في العالم كتبوا عن أفلامهم
بعض كبار المخرجين في العالم كتبوا عن أفلامهم

ولكن هناك الكثيرون الذي تحدثوا عن أفلامهم وناقشوها بالتفصيل كما ناقشوا أساليب عملهم في سلاسل من الكتب السينمائية الشهيرة التي صدرت في الغرب، لكن ليس من الشائع على الإطلاق أن يسارع مخرج ما إلى الرد عما كتب عنه من نقد، فهذا ليس تقليدا، لكنه جزء من “الفوضى” الثقافية القائمة في العالم العربي، فكثيرا ما يكتب هذا المخرج أو ذاك، يهاجم ويحتج ويعترض، بل ويسعى أيضا إلى تشويه الناقد الذي أبدى عدم إعجابه بفيلمه.

وفي معرض حديث أحد المخرجين الأميركيين في الفيلم التسجيلي البديع “ما قالته: فن بولين كيل” الذي شاهدته مؤخرا في مهرجان برلين، وهو عن دور الناقدة الأميركية الشهيرة الراحلة بولين كيل، قال إنه ربما كان قد بادر بكتابة رد على نقدها لفيلمه، لولا أن الرد على النقد “غير مسموح به”، أي ليس تقليدا تعرفه الصحافة، لأن النقد عموما الذي يكتبه كتاب متخصصون، ليس مجرد رأي لقارئ أو مشاهد يمكن الرد عليه وتفنيده، بل هو عمل إبداعي قائم بذاته، ولو تفرغ المخرجون لمطاردة نقادهم لما وجدوا وقتا لعمل الأفلام!

ومن المدهش أن ينبري مخرج ما للاعتذار عن أحد أفلامه لأسباب تتعلق بعدم إقبال الجمهور عليه، فيقر مثلا بأن فيلمه كان “يتعالى على الجمهور” وهو التعبير الذي استخدمه مؤخرا، المخرج المرموق داود عبدالسيد في مجال الاعتذار عن فيلمه “البحث عن سيد مرزوق”.

وقد دهشت لهذا، لأن مثل هذا الاعتذار هو نوع من “نقد النقد”، أو الشطب على النقد، فكأن داود يشطب على الكتابات النقدية التي اهتمت بالفيلم وتعاملت معه كعمل فني بديع ومتميز، وفي الوقت نفسه لا يوجد فيلم يمكن اعتباره متعاليا على الجمهور، فالجمهور أيضا طبقات وأنواع واتجاهات وليس كتلة واحدة، كما أن الفيلم يأتي طبقا لرؤية مبدعه، وهاجسه الفني، ولا مجال للاعتذار عن “الرؤية”!

16