المخارج المسدودة في العلاقات الجزائرية – الفرنسية

منذ عقود خلت، ظلت الذاكرة المشتركة بين الجزائريين والفرنسيين تخيم على العلاقات بين البلدين، ورغم المقومات الثقافية والاجتماعية التي تربطهما، لم يتخلص الطرفان من مفعول التاريخ، وبدل التعامل مع الماضي كماض والتوجه نحو المستقبل، تبقى تلك العلاقة حبيسة منطق الجلاد والضحية، ويبدو أن المعركة التي دامت قرنا وثلثا لا تزال مستمرة بوسائل وتجليات أخرى.
وكما في فرنسا حيث لا تزال دوائر سياسية وإعلامية رهينة النظرة الاستعلائية والانتقائية تجاه الجزائر والجزائريين، فإن في الجزائر أيضا دوائر مماثلة تستغل قضية التاريخ والذاكرة المشتركة في حسابات ضيقة يطبعها الابتزاز وتصفية الحسابات، ولا تمثل الدفاع عن حق شعبها في الإنصاف التاريخي.
وفي كل مرة تتشنج العلاقات الجزائرية – الفرنسية، أو تدخل في نفق أزمة دبلوماسية كالتي عرفت مؤخرا، يعود الحديث عن إصدار تشريع برلماني يجرم الاستعمار، لكن المشروع المذكور لم ير النور إلى حد الآن رغم المحاولات المتكررة من طرف نواب وكتل نيابية منذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، وظلت التعليمات الفوقية المستترة تقف حائلا أمام أي محاولة.
◙ يبدو أن العلاقات بين الطرفين لن ترى الوضع الطبيعي في ظل هيمنة دوائر ترفض الاعتراف بالحقيقة، وفوق ذلك تعمل على المساواة بين الضحية والجلاد، كما يجري الآن وفق مقاربة ماكرون ومستشاره بنجامين ستورا
فمنذ العام 2005 وإلى غاية الآن، لم تتوقف المحاولات داخل البرلمان لإصدار تشريع برلماني يجرم الاستعمار، لكن النص لم يصدر تحت ضغط الدوائر السلطوية التي تبطن تجاه فرنسا كماض وكحاضر عكس ما تظهر، وربما هي الجهات التي قصدها الرئيس إيمانويل ماكرون في تصريح مثير خلال الصيف الماضي عندما ذكر بأن دوائر جزائرية تعيش على قضية الذاكرة كسجل تجاري جاهز للاستغلال والابتزاز.
في وقت سابق كان الخطاب والأصابع يتوجهان إلى الطابور الخامس الذي استفرد بمقاليد السلطة ومؤسساتها، ولا يتورع في تكريس الولاء الأيديولوجي والثقافي والسياسي لفرنسا، ولذلك ارتبطت العلاقة في عقود ماضية بمسألة الانتقام من الاستقلال، لكن في الوقت الحاضر تحولت إلى جماعات ضاغطة تملك وتدير مصالح خفية بينها وبين فرنسا.
وتحدثت إفادات فرنسية عن تحويل لوبيات سياسية ومالية مقربة من السلطة لما يقدّر بخمسين مليار دولار من عمليات فساد داخل البلاد إلى عقارات ونشاطات ضخمة وحسابات في البنوك والمصارف الفرنسية، ولذلك فإن ثقل تلك اللوبيات لا يمكّن من تسوية تاريخية بين البلدين، أو يسمح بتمرير أي شيء رمزي يدين الاستعمار، رغم أنها هي من تلوح بين الفينة والأخرى بورقة الذاكرة المشتركة.
التشنج التاريخي الذي يبعث في كل مرة من أجل دغدغة المشاعر واللعب على أوتار حساسة لدى الجزائريين، كان في حقبة الرئيس السابق الراحل عبدالعزيز بوتفليقة كما في حقبة عبدالمجيد تبون، لكن الفرنسيين هم من دعموا الأول حتى في مشروع الولاية الخامسة الوهمية التي فجرت الشارع الجزائري، وعلى أراضيها وفي مشافيها سويت خلافات أجنحة السلطة العام 2014، وهم أيضا من أشادوا بصداقة وصدق الثاني.
خلال إعلان السلطة الجزائرية عن القطيعة مع باريس خلال الأشهر الأخيرة ردا على استفزازات ماكرون لتاريخ الجزائر، صرح تبون بأنه لا يقبل أقل من الاعتذار للجزائريين مقابل أي تطبيع لعلاقات البلدين، وأن المسألة هي مسألة شعب أهين وليس شخصا ما في الدولة، لكن العلاقات طبّعت وعاد السفير الجزائري إلى مهامه ولم ير الجزائريون أي اعتذار فرنسي عمّا بدر من ماكرون، غير أسف على سوء فهم.
ليس من السهل مسح ذاكرة مخزنة بقرن وثلث القرن من الآلام والجراح التي لا تزال ماثلة إلى حد الآن، لكن الحاصل أن الإرادة غير متوفرة لدى الطرفين للخروج من مأزق الماضي رغم القواسم المشتركة، وأن التلاعب بملف الذاكرة المشتركة هو ناجم عن وقوعه لدى دوائر تريد توظيفه لأغراض أخرى في الجزائر كما في فرنسا.
ففي باريس لا تزال النخب السياسية في صدارة الرافضين للنزول من الشجرة، وفي الجزائر لا يزال المناهضون للاستعمار عاجزين عن إصدار تشريع نيابي يجرمه، ولا تزال الأجيال ضحية تسويق أيديولوجي يكرس المصالح والأغراض الضيقة، أكثر مما ينصف التاريخ، ولذلك يبقى الطريق مقطوعا أمام أي تسوية حقيقية تضع الأشياء في سياقاتها وتتجه نحو المستقبل.
◙ في فرنسا حيث لا تزال دوائر سياسية وإعلامية رهينة النظرة الاستعلائية والانتقائية تجاه الجزائر والجزائريين، فإن في الجزائر أيضا دوائر مماثلة تستغل قضية التاريخ والذاكرة المشتركة في حسابات ضيقة
ويبدو أن العلاقات بين الطرفين لن ترى الوضع الطبيعي في ظل هيمنة دوائر ترفض الاعتراف بالحقيقة، وفوق ذلك تعمل على المساواة بين الضحية والجلاد، كما يجري الآن وفق مقاربة ماكرون ومستشاره بنجامين ستورا، وفي المقابل موقف جزائري مرتبك لا هو تنازل عن ماضي الدولة، كما تنازل عن الكثير من المسائل لصالح الفرنسيين، ولا هو تمسك بحقه التاريخي وأدار ظهره لفرنسا وتوجه لبناء شراكاته وعلاقاته مع أطراف أخرى.
قد يقول قائل إن هناك العديد من المعطيات التي لا يمكن تجاوزها على غرار الجالية والأفراد واللغة والثقافة والجغرافيا، وأن الزمن وتتابع الأجيال كفيلان بحل المعضلة بين الطرفين، لكن للبراغماتية منطق آخر، فعكس مستعمرات القوى الكبرى التي قطعت أشواطا في التنمية وتحقيق النهضة لشعوبها، فإن المستعمرات الفرنسية السابقة خاصة في أفريقيا لا تزال رهينة التخلف والفقر بسبب استمرار نفس الهيمنة الاستعمارية الفرنسية.
وفي إحدى المناسبات ذكر لي مسؤول من دولة النيجر بأن باريس تضاء من بلاده، في إشارة إلى الثروات الباطنية التي تستحوذ عليها فرنسا في بلاده دون أن تقدم لدولة النيجر مقابلا أو بديلا لتحقيق النهضة لأكثر الشعوب فقرا في القارة السمراء.
هذه العينة يمكن إسقاطها على علاقة فرنسا بمستعمراتها القديمة وعلى رأسها الجزائر، وهو أمر يعيق المرور بتلك العلاقات إلى الوضع الطبيعي، خاصة وأنه في الجهة المقابلة هناك من يتناغم ويستفيد من أزمة الذاكرة المزمنة، حيث توظف في الوقت المناسب وتختفي في الوقت المناسب أيضا.