المحاماة التونسية تتنازعها التجاذبات السياسية

تونس – خلفت الأزمة السياسية في تونس شروخا عميقة في جسد المحاماة، في ظل انقسامات بين فريق مؤيد لرئيس الجمهورية قيس سعيد والمسار الذي أعلن عنه في الخامس والعشرين من يوليو وما استتبعه من قرارات، وفريق داعم ومساند لمنظومة
الحكم السابقة.
ويقول حقوقيون إن الأزمة في تونس أفرزت حالة من الاصطفافات الحديّة أثرت على العديد من القطاعات، وفي مقدمتها المحاماة، مشيرين إلى أن عددا من المحامين كانوا جزءا من المنظومة السابقة بقيادة حركة النهضة، وقد وصل بعضهم إلى السلطة التشريعية بفضل تحالفهم مع الحركة الإسلامية، يحاولون اليوم التصدي للمسار الجاري من خلال العباءة الحقوقية خدمة لأغراض سياسية.
في المقابل يوجد تيار مهم من المحامين يرى في قرارات الرئيس سعيد ولاسيما حل المجلس الأعلى للقضاء، وتفكيك المنظومة التي سيطرت على هذا الجسم طيلة العشرية الماضية، خطوة لا بد من دعمها لوضع البلاد في مسار إصلاح حقيقي يقود إلى نهضة فعلية بعد الانتكاسات التي تعرضت لها البلاد منذ انهيار حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
ويحذر الحقوقيون من وجود محاولات للدفع باتجاه صدام داخل قطاع المحاماة، مشيرين إلى أن ما يحصل اليوم هو أكثر خطورة مما حدث في العام 2011، حينما تصدرت ثلة من المحامين تقودهم رئيسة الحزب الدستوري الحالي عبير موسي المواجهة للتصدي لحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي.
وعبر المحامي عماد بن حليمة في تصريحات لـ”العرب” عن تنديده بشدة لمحاولات إقحام المحاماة في معارك سياسية لبعض الأطراف التي فقدت السلطة، مشددا على أنه ومنذ العام 2011 انتفت الأسباب الموجبة لجعل هذا القطاع الوعاء الذي يحتضن المعارضة السياسية، وأن هناك حاجة للتركيز على المطالب المهنية.
عماد بن حليمة: قوى سياسية تحاول إقحام المحاماة في معركتها مع السلطة
وأوضح “قبل العام 2011 وفي ظل حالة الانسداد التي تعيشها البلاد آنذاك، كانت المحاماة المستوعبة للأزمة السياسية وأزمة الحريات ككل، وكان الجميع من منظمات وطنية وأحزاب سياسية معارضة تلجأ لهذا القطاع للاحتماء به”.
وأشار بن حليمة إلى أنه وبعد الرابع عشر من يناير حصل انفتاح سياسي كبير وأصبح بإمكان المكونات التي كانت تمارس السياسة من داخل المحاماة من تيارات إسلامية ويسارية وقومية لها هامش حركة واسع، وبالتالي تغير الدور الذي كان يضطلع به قطاع المحاماة.
وحذر من أن هناك اليوم مجموعة صغيرة من المحامين محسوبة على التيار الإخواني والسلفي تحاول إقحام القطاع برمته في معركتها مع السلطة السياسية، وأن ما حصل مع العميد إبراهيم بودربالة هو رد فعل من هذه المجموعة للتعاطي الموضوعي والوازن لعمادة المحاماة مع إيقاف العميد السابق، الذي سبق وأن خذل القطاع ومن انتخبه في
العام 2010.
وأثار قيام مجموعة من المحامين محسوبة على المنظومة السابقة من بينهم المحامي والنائب في البرلمان المجمد سيف الدين مخلوف باقتحام مكتب عميد المحامين ورفع شعار “ارحل” ردود فعل مستهجنة من القوى السياسية والمدنية.
ونددت منظمات عديدة ومن بينها الاتحاد العام التونسي للشغل، بالاعتداء الذي تعرض له عميد المحامين، معربين عن تضامنهم مع العميد بودربالة، ورفضهم لمثل هذه الممارسات.
واستبق الهجوم على مكتب العميد بودربالة حملة تحريض واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي على خلفية مواقفه الأخيرة سواء في علاقة بحل المجلس الأعلى للقضاء، وأيضا موقفه من مثول عميد المحامين السابق عبدالرزاق الكيلاني أمام القضاء
العسكري.
وقال العميد بودربالة الجمعة ردا على الاعتداء الذي تعرض له “أنا أب العائلة وإذا الأب له ابن أو اثنان فقدوا الصواب فلا يجب أن ينكر نسبه لهم”. وأضاف العميد في تصريحات لوسائل إعلام محلية “هم محامون مسجلون في جدول المحاماة وسأتصرف كأب لأبناء أخطؤوا وظلوا السبيل”.
وأكد بودربالة أن العمادة مؤسسة منظمة وهياكل المهنة ستتدبر الأمر وسيتم اتخاذ موقف جماعي في ما حصل.
وفي ما يتعلق بإصدار بطاقة إيداع بالسجن في حق عبدالرزاق الكيلاني، أوضح بودربالة أن حاكم التحقيق لم يصدر بعد حكما نهائيا وأن الكيلاني حاليا في الإيقاف التحفظي.
حيدر بن عمر: هياكل المحاماة واعية بخطورة الانجرار إلى مربع الصراعات
وشدد على موقف العمادة والمحامين عامة، الرافض لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، داعيا إلى ضرورة تنقيح القانون الذي ينص على ذلك، مشيرا إلى أن من تولى السلطة التشريعية في تونس سابقا (حركة النهضة وحلفاؤها) كان حريا به تنقيح القانون الذي يسمح بمثول المدنيين أمام القضاء العسكري.
وأشار بودربالة إلى أن الكيلاني تصرّف في نطاق نشاطه السياسي لا المهني، وهو بذلك “يتحمل وزر نشاطه السياسي”.
وأصدرت محكمة عسكرية في تونس مساء الأربعاء، قرارا بإلقاء القبض على عميد المحامين الأسبق عبدالرزاق الكيلاني. ويواجه الكيلاني تهما بالانضمام إلى جمع من شأنه الإخلال بالراحة العامة، والتهجم على موظف عمومي بالقول والتهديد.
واستغلت القوى المناوئة للرئيس سعيد الصفة السابقة للكيلاني في محاولة للزج بقطاع المحاماة في المواجهة التي تخوضها ضد رئيس الجمهورية، مع أن الكيلاني سبق وأن تخلى بنفسه عن العمادة في العام 2011، حيث تم منحه منصب وزير مكلف بالعلاقات مع مجلس النواب في عهد رئيس الوزراء الأسبق القيادي في حركة النهضة حمادي الجبالي.
واعتبر المحامي والحقوقي حيدر بن عمر أن قطاع المحاماة لم يكن بمعزل عن التفاعل مع الوضع السياسي منذ نشأة الدولة الوطنية وإلى اليوم، لكن من الضروري الفصل بين المحامي أو العميد الذي يمارس نشاطا سياسيا والذي لا يمثل إلا نفسه والتيار الذي ينتمي إليه وبين المحاماة كمهنة.
وقال بن عمر في تصريحات لـ”العرب” إن “مساعي إقحام المحاماة في التجاذبات السياسية الحالية آخر المحاولات الفاشلة التي تقودها حركة النهضة وحلفاؤها بعد الخامس والعشرين من يوليو وما حدث لها من عزلة سياسية وشعبية”.
ولفت إلى أن المحاماة ممثلة في هياكلها الشرعية سواء بعميدها أو مجلس الهيئة الوطنية للمحامين واعية جدا بخطورة الانجرار إلى مربع الاحتكاكات السياسية، وأن لا بوصلة لها سواء البوصلة الوطنية.
ورأى بأن ما تعرض له العميد بودربالة هو “جريمة مكتملة الأركان من طرف مجموعة من المحامين تحمل أجندة سياسية، مرجحا أن تقع إحالة هؤلاء على مجلس التأديب من أجل الأفعال الخطيرة التي صدرت عنهم”.
وحذر بن عمر من أن حركة النهضة وحلفاءها تستخدم ذات الأسلوب وعبر نفس الوجوه لتكدير المشهد العام، فبعد حالة التهريج في البرلمان المجمد تريد اليوم نقل هذه الصور إلى مقر عمادة المحامين.