المجلات الثقافية المغربية تطوّع الرقمنة

يشهد العالم موجات واسعة من الرقمنة التي بدأت تهيمن شيئا فشيئا على عالم الورق، وبالتالي على الكتب والمجلات، بما يفرضه العالم الرقمي من تغيير في الشكل وطرق الطرح، في ظل اتهامه بالسطحية وأنه لا يقدم ثقافة عميقة. وفي هذا الواقع الجدلي تواجه المجلات الثقافية المغربية الورقية الثورة التكنولوجية وتحاول تطويعها لمصلحتها.
خلقت المجلات المغربية موردا ثقافيا وفكريا من خلال نوعية الاهتمامات والمرجعيات وطبيعة الأسئلة التي يطرحها الكتّاب والإجابات المتنوعة، وهذا ما يعني أنه لا بديل عن تلك المطبوعات إذا كانت مواكبة لرهانات الحاضر ومستشرفة لما سيأتي.
وتسعى الكثير من المجلات إلى بناء قاعدة واسعة من المتابعين للشأن الثقافي مع الاشتغال على تنويع المستهدفين من الشباب والنساء وشرائح أخرى، وذلك من خلال الانفتاح على العالم الرقمي دون الذوبان في مستويات التفاهة والسطحية المرافقة لطغيان المنصات الرقمية سريعة الظهور والمتنوعة المحتوى الفضفاض في أغلبه.
الرقمنة والمجلات الثقافية
تعترف فاطمة الزهراء المرابط، مديرة نشر ورئيسة تحرير مجلة “الصقيلة”، بأن إصدار مجلة أدبية محكمة مثل “الصقيلة” في خضم ما تعرفه الساحة الثقافية المغربية من تحولات على رأسها: هيمنة الرقمنة وتطور الوسائل التكنولوجية وغيرها، هو نوع من المغامرة أو الجنون، إلا أن الاحتكاك بالميدان أكد أهمية المجلات الأدبية – وخاصة المحكمة منها – التي صارت معدودة على رؤوس الأصابع لتوقف بعضها وعدم انتظام صدور البعض الآخر.
ومن جهته يقول الكاتب والقاص المغربي سعيد منتسب، إنه لا يجازف بالنظر إلى المجلات الثقافية كضوء استأنس به المغاربة طويلا، لكنه آخذٌ الآن في الابتعاد والاختفاء، ولا يتصور أن المجلات الثقافية ستختفي بالطريقة التي تهدد بها التكنولوجيا الوجود الإنساني نفسه. ويضيف في تصريح لـ”العرب”، أن “عادات القراءة تغيرت، وصحيح أن الألواح الإلكترونية والهواتف الذكية والحواسيب صارت تقضم يوما بعد يوم المساحة التي كانت للكتاب أو المجلة الورقيين، لكن لا يعني ذلك وبأي حال من الأحوال، وخارج أي تحيز نوستالجي، نهاية المجلة الثقافية الورقية”.
ويدافع منتسب على رؤيته بالحجة على ذلك عبر الملاحظات التالية “أولا: بدل أن يقل عدد المجلات الثقافية بفعل ‘الاجتياح التكنولوجي’ زاد عددها، ويزداد كل يوم عبر إقدام مجموعة من المنظمات والجمعيات الثقافية والمؤسسات والجامعية على إصدار مجلات موضوعاتية خاصة بها”.
ويتابع “ثانيا: استفادت المجلات الثقافية من الإمكانيات الفنية الهائلة التي تتيحها التكنولوجيا على مستوى التصميم والتركيب والإخراج والطباعة. ثالثا: اتسع هامش الاختيار بين التخصصات الثقافية (الآداب، التاريخ، التشكيل، السينما، السوسيولوجيا، الفلسفة، المسرح، علم النفس.. إلخ). ورابعا: اتسع هامش النشر والتسويق والتوزيع (الدعم العمومي، الدعم المؤسساتي الجامعي، الشراكات الدولية، المعارض الوطنية، المعارض الجهوية، المكتبات، الخزانات الجامعية.. إلخ). نهاية ببروز بعض المبادرات الخاصة في الإنتاج والاستثمار والترويج الثقافي عبر إصدار مجلات ثقافية”.
ومن بين المجلات التي أطلِقت خلال الستينات ومنتصف السبعينات “المناهل” و”الثقافة المغربية” اللتين أطلقتهما وزارة الثقافة المغربية، و”مجلة القصة والمسرح” التي أصدرها كل من محمد برادة وعبدالجبار السحيمي ومحمد العربي المساري، ومجلة “أقلام” التي أصدرها أحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو، بالإضافة إلى مجلة “آفاق” الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب.
المجلات المغربية لا يزال لها تأثير في المشهد الثقافي المغربي حيث تستقطب الدراسات العلمية وتوظف التكنولوجيا
وتعتقد فاطمة الزهراء المرابط، أن المجلات الثقافية الجيدة لن تنال منها الوسائل الرقمية والتكنولوجية وتعدد المواقع الإلكترونية، فهي ستجد طريقها الدائم إلى القارئ المتعطش إلى الكتابات الجادة والهادفة. وتضيف أن “هذا ما نحاول تكريسه في مجلة ‘الصقيلة’ بتقديم مواد أدبية ونقدية جديدة ومتجددة جديرة بالقراءة، وتطعيم المجلة بأقسام أخرى من حين لآخر، وطرح الموضوعات الأدبية والنقدية ذات الطابع الراهني”.
ويقول الكاتب المغربي الحسن الوزاني إن المجلات الثقافية تمثل خلال عقود من تاريخ المغرب المعبرَ الأساس للنقاش والتداول الثقافي والإبداعي وأيضا لانبثاق الأجيال الأدبية والثقافية، خصوصا في الوقت الذي يكون فيه مشهد النشر منكفئا على نفسه وغير قادر على مسايرة إيقاع إنتاج الأفكار وتداولها الواسع، مستشهدا بمجلة “الثقافة الجديدة” التي اختارت منذ البداية أن تكون صوتا يحقق اختلافه الخاص، في لحظة كانت الثقافة المغربية تبحث عن جانب من هويتها التي فقدها البلد أثناء مرحلة الاستعمار.
ويقر شفيق الزكاري الصحافي وعضو تحرير مجلة “الثقافة المغربية”، بأن المجلات المغربية لا يزال لها تأثير في المشهد الثقافي المغربي لأنها أولا ورقية وتستقطب جميع الدراسات العلمية المطولة استنادا إلى المراجع كمجلة “آفاق” لاتحاد كتاب المغرب و”المناهل” و”الثقافة المغربية” وغيرها، كما أصبحت تعوض جميع المساهمين إلى جانب مصداقيتها العلمية والمرجعية بالنسبة إلى الباحثين والمهتمين والطلبة.
ويؤكد الزكاري في تصريح لـ”العرب”، أنه بالإمكان العودة إلى تلك المجلات كمرجع في نسخه الورقية والرقمية، في أي وقت مهما طال الزمن، خلافا لما ينشر عبر المواقع الإلكترونية فهي محدودة زمنيا ولا تحتوي على هيئة تحرير تسهر على انتقاء المواد وتصحيحها وجمالية نشرها.
وتتفق المرابط مع الزكاري مشدّدة في تصريحها لـ”العرب”، على أن المجلات تعد مرجعا مهما لمجموعة من الباحثين والقراء، ومنبرا لنشر دراساتهم المتخصصة والاطلاع على مستجدات النقد والإبداع، في حين أن النشر الإلكتروني – حتى لو أتاح فرصة للبعض وخاصة المتطفلين على الكتابة – أسهم في نشر النصوص الضعيفة غير الخاضعة للمراجعة، مما أربك ذائقة القارئ الذي عزف عن القراءة، إلى جانب تشبث بعض الكتاب بالنشر الورقي الذي لا تستطيع رياح التغيير أن تعصف به.
وترى المرابط، أنه من أسباب نجاح المجلة التي تديرها، هو انفتاحنا على المبدعين والباحثين الشباب والتلاميذ والطلبة – الذين منحناهم الأولوية – واستحضارنا لبعض الكتاب الذين طالهم النسيان بعد وفاتهم. وأضافت أنه الآن وبعد مرور أزيد من خمس سنوات على الانطلاق، يحق لنا أن نفتخر بتجربتنا التي تمكنت بجهود الفاعلين فيها من ترسيخ اسمها في الساحة الثقافية وصار لها صدى على المستوى العربي.
تراكم كمي

رغم إكراهات النشر يحظى المشهد الثقافي بـ542 مجلة موزعة بين الورقي والإلكتروني، وقد أعيد إصدار أربع مجلات بعد سنوات من التوقيف مجلة “المناهل”، ومجلة “الثقافة المغربية”، مجلة “فنون”، ومجلة “اقرأ”، كمبادرة لاستعادة الحضور الثقافي ومساهمتها في تشكيل الوعي الثقافي والفني والأدبي والانفتاح أكثر على منافذ الحداثة والتحديث، وقد أتاحت المكتبة الوطنية نسخها المرقمنة.
وتخصصت مجلة “اقرأ” في مجال أدب الطفل والتي بدأت سنة 2019 وصدرت منها إلى الآن ثلاثة أعداد، كما اختارت مجلة “فنون” الاشتغال في إطار مبدأ الاستمرارية والوفاء والتجديد في ظل تحديات القرصنة والمستجد الرقمي.
ويعتقد منتسب في تصريح لـ”العرب”، أن المجلات الثقافية التي تصدر في المغرب الآن لا يمكن حصرها بسهولة، كما لا يمكن حصر جغرافيتها في الحواضر كبرى، كما كان عليه الحال في أواخر القرن الماضي، فقد اختفت تلك المرحلة التي كنا نسمع فقط عن مجلات “دعوة الحق”، “أقلام”، “آفاق”، “بيت الحكمة”، “الثقافة الجديدة”، وغيرها، لافتا إلى أنه الآن أصبحت اللائحة أطول من أن نحصرها في عشرين أو ثلاثين عنوانا.

عادات القراءة تغيرت والألواح الإلكترونية والهواتف الذكية والحواسيب صارت تقضم يوما بعد يوم مساحات الكتب والمجلات الورقية
وتعي مجلة “اقرأ” المتخصصة في أدب الطفل، أن هذا المجال بالضبط يصعب تدبيره وسط تضارب الرؤى والمفاهيم المتعلقة بأدب الطفل وأهدافه، والحدود التي ترسم له. ويؤكد جمال بوطيب، مدير مؤسسة مقاربات للنشر التي تصدر المجلة، على الإكراهات التي تواجه المشتغلين في هذه المجلة، منها التدقيق في مرجعيات النصوص التي تقدم للطفل، والتي تتماشى مع المرجعية الحقوقية وزرع روح الوطنية والقيم الثقافية والدينية، مشيرا إلى ضرورة مراجعة سعر المجلة الذي يبقى عائقا أمام إمكانية اقتنائها.
ويعتبر مصطفى القباج، مدير مجلة “المناهل”، أن المجلة الثقافية فعل ثقافي يدخل ضمن ما تقوم به النخبة، سياسية كانت أم ثقافية أو مدنية لنشر أعمال تتوفر فيها الرصانة الفكرية والأفق الحداثي تبعا لتخصص كل مجلة، واختارت “المناهل” التخصص في العلوم الإنسانية والاجتماعية، هدفها الدفاع عن القيم التقليدية والتراث مع احترام اشتراطات الحداثة، بالإضافة إلى تعميم منهجية علمية للنشر وفق معايير تحترم الأساليب العلمية في البحوث والدراسات، مع ضمان حقوق التأليف للباحثين.
ويعيب الكاتب الحسن زهور، على مجلة “الثقافة المغربية” التي يدلّ عنوانها على ما تدل عليه من شمولية ما أنتج في المغرب، فهل عكست مغربيتها هذه؟ المتصفح أنها لا تمثل سوى وجه واحد لأدبنا المغربي، أي وجهه المكتوب بالعربية، أما وجهه المكتوب بالأمازيغية فلا يزال لم يجد مكانه فيها. وكان من المفروض أن تمثل هذه المجلة الثقافة والأدب المغربيين في شموليتهما وفي تنوعهما اللغوي انسجاما مع الخطاب الرسمي ومع الهوّية المغربية كما هي في الواقع وكما هي مرسّمة في الدستور المغربي، وفي نفس الوقت نوه ببادرة مجلة “المناهل” التي خصصت في عددها الأخير (عدد 100) ملفا خاصا عن الأدب الأمازيغي بعنوان “لمحات عن الأدب الأمازيغي المكتوب” من إعداد الباحث محمد المدلاوي.
وبالإضافة إلى كل ما يتعلق بضغوط الرقمنة وما تحمله من تحديات تواجه المجلات المغربية الثقافية، هناك أيضا التطور الحاصل في مجال النشر والطباعة، بالإضافة إلى هيمنة المجلات الخليجية التي استقطبت عددا كبيرا ممن القراء المغاربة والكتاب على حد سواء، بالنظر إلى جمالية إخراجها الفني والتعويض المادي للمشتغلين ضمن طواقمها.
ولهذا يشير الشاعر والناقد صلاح بوسريف مدير مجلة “الثقافة المغربية”، إلى أن كل هذه المعطيات ولّدت لدى المسؤولين عن إصدار المجلة الثقافة المغربية، الحرص على جعلها ممثِلة ومترجِمة لكل التعبيرات الثقافية والجمالية والفنية، وعلى ضمان عدالة مجالية ولغوية ضمن مواد المجلة تتوزع بين العربية والفرنسية والأمازيغية والحسانية بالإضافة إلى التمثيلية الجغرافية.