المجلات الثقافية العراقية

مع الفيض الكبير من الصحف والمجلات الثقافية والتوجيهية والسياسية التي أعقبت التغيير السياسي في العراق عام 2003، وشيوع الهاجس الإعلامي والصحافي من قنوات فضائية محلية وإذاعات تعد بالعشرات والمئات، لم يتبقَّ من هذا الكم الكبير، بعد مرور خمسة عشر عاماً؛ سوى الشيء القليل الذي يكاد لا يُذكر بتوفر قنوات اتصالات جديدة في الإلكترونيات التي تجاوزت كل هذا الفيض المتراكم وأصبحت بيد الجماهير كسلاح يومي تواجه به السلطة وتفضح الكثير من الأسرار، بعيداً عن سلطة الإعلام وتوجهاته الحكومية والحزبية، مما يعني غض النظر عن أكوام الصحف التي كانت تملأ الأكشاك، وبالتالي غض النظر عن إذاعات لا معنى لوجودها في الحياة اليومية ومعها الكثير من القنوات الفضائية التي فشلت في أن تكون وطنية حينما دعمت توجهاتها الطائفية والمذهبية التي تدعم معظمَها دول الجوار.
وفي الجانب الثقافي كانت حماسة الكثير من الجيل الجديد أن يظهر بمظاهر ثقافية مختلفة تستوعب الدروس الماضية وتؤسس لثقافة وطنية حرة، غير تقليدية، تنأى بمقدار كبير عن المؤسسة الرسمية، وتستقل بجماليات أخرى باستقطابها النخبة الواعية التي خرجت من كابوس قديم وانتمت إلى الحاضر المنفتح في الإرسال والتلقي، بعيداً عما كان يسمى بـالهامشية إذْ أصبحت الحياة الثقافية، كما بدا، أكثر حريةً وانتماءً إلى فضاءات الإنسانية ومشتركاتها الكبيرة.
وعلى أساس هذه الرؤيا صدرت مجلات ثقافية في العاصمة والمحافظات استقطبت الأقلام الجديدة الواعدة وهيّأت لمستويات أدبية وفكرية أكثر تماسّاً مع وقائع الحياة الجديدة التي خرجت من معطف لكنها دخلت في معاطف أخرى لا تقل بؤساً عن المعطف الأول.
وبعد مرور أكثر من عقدٍ ونصف العقد من السنوات توارت الكثير من هذه المجلات وانحسر تداولها، ومن ثم فقدت الكثير من أهميتها وحضورها حتى بين النخبة والمتابعين للشأن الثقافي وبالتالي توقفت عن الصدور، بل ويمكن القول إن المجلات الثقافية التي تصدرها المؤسسة الرسمية / وزارة الثقافة / لم تعد مهمة وليس هناك من يتسابق إلى النشر فيها، فهي تصدر من باب إسقاط الفرض الوظيفي وليست لها رؤية ثقافية وفكرية معتمَدة يمكن أن تكرّس جهودها فيها، بل يقودها موظفون مسلكيون (بعضهم أدباء) وهذا ما يشكل عقبة في طريق أدائها الثقافي حينما تتحول المجلة الى وظيفة يومية، وبالتالي فإن الكلام عن “مشروع ثقافي” سيبدو كلاماً طائشاً بعيداً عن الواقع ومعطياته.
فشل المجلات الثقافية العراقية يمكن حصره في أساسيات محددة، يتقدمها التمويل المالي الذي نستشعره جيداً في دفع مثل هذه المجلات للمواصلة، غير أنه أصبح العقبة الحقيقية أمام استمرارية مثل هذه المجلات النوعية، فليست هناك مؤسسات مدنية داعمة ولا هيئات مستقلة يمكن أن تنهض بواقعها، وبالتالي فإن تعثر صدورها أمرٌ حتمي إذا عرفنا أن الجهود والنوايا (الشخصية) وحدها لا تصنع فاعلية ثقافية وديمومة أدبية وتوسيع المشروع الثقافي إن كان هناك مشروع ثقافي فعلي.
وهذه نقطة أخرى يمكن التوقف عندها قليلاً بإزاء تقييم مرحلة ثقافية نعيشها بالتفصيل، ومع الأجيال الجديدة التي حاولت بدايةً أن تخلق في الفجوة المتروكة بعد التغيير السياسي حالة جديدة من رؤية ثقافية مغايرة، لكنها لم تستطع كثيراً؛ فردود الفعل ومع الحماسة الفائضة لا تخلق هكذا مشاريع، والانفعالات غير المبرمجة تقود إلى التسرع في ملء الفجوات المتوقعة كيفما اتفق، من دون تحسب ضمني لكون أي مشروع يمكن أن يتوقف ما لم تكن له أسس رصينة وبرامج صحيحة قائمة على قراءة الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، وبالتالي فإن العديد من المجلات الثقافية توقفت توقفاً.. نهائياً.