المجتمع والفعل الثقافي
يتبلور الفعل الثقافي من خاصيّة وجود قاعدة ثقافية آمنة، ومكانة قادرة على نشره بصورة أوسع. وهذه تحتاجُ إلى عوامل عديدة، أهمها الواقع السياسي والاجتماعي وحتى الديني. ولأن الثقافة فعل وإنتاج وسلوكٌ، فإن كلّ الفعاليات الأخرى سواء منها السياسية أو الدينية، تحتاج إلى التفعيل الثقافي بما فيها الجوانب الاقتصادية والفنية والاجتماعية وعلم النفس وغيرها. فهي تغترف من الفعل الثقافي، لذلك فإن حاجة المجتمع إلى المثقف هي حاجته إلى ذاته.
على ضوء هذا فإن المثقّف ذات متداخلة مع الكينونةِ وليست منفصلة عنها وليست وظيفة أو شهادة أو سعيا لبلوغ مرحلة متقدمة من السلطة أو واجهة اجتماعية. بل هي -أي الثقافة- ملازمةٌ للإنسان في التصرف والسلوك والوعي. فهي الحركة التي يقوم بها الإنسان والكلمة التي ينطقها. لذا قيل على المؤمن الذي يعلم طريق الله هو الذي يحفظ يده ولسانه، وهو فعل ثقافي حتى إن كان دينيا. لأن الدين هو الوعاء الثقافي الأكبر الذي يمكن أن يعد فيه التصرف الواعي على أنه سلوكُ مؤمن منتبه إلى قضاياه.
ولأن الثقافة أيضا لا تنفصل عن كونها أداء اجتماعيا فإنها بحاجة إلى غذاء مستمر، يأخذ من ديمومة القراءة والاطلاع ما يمكن أن يجعل من بيدر الحرف تزداد مساحته، حينها تكون هذه المساحة متاحة للآخرين، كونها موطئ قدم الوعي الذي تنطلق منه فعاليات بناء المجتمع. فرغم أن الفعالية ثقافية فعالية مفردة يقوم بها المثقف، إلّا أن النتائج تعود إلى الجميع، حيث يدخلون المساحات الخضراء التي زرعها المثقّف في البيدر.
إن الثقافة ترتبط في غذائها بالفعل القرائي الذي ينتج عقلية قادرة على تمييز الحقيقة من الخيال، والكذب والتدنيس، والمدلّس والصحيح، والمفتعل والواقعي، والجميل والسيء… إلى ما أردنا من أمثلة ومصطلحات ومتناقضات. وهذه يحدّدها الواعي والمثقّف الذي يقرأ ويطّلع ليحدّد ويشير.
لذا إن المثقف لا يعني فقط الحاصل على شهادة أو المنتج للفعل الثقافي، بل هو الوعاء الذي تتجمّع فيه سلوكات جمالية شتى. وهو القادر على منح الآخرين هذه السلوكات لبناء الوعي ورفع مستوى الثقافة المجتمعية التي تعتمد على فعل المثقف، في كونه المنبع الذي تعتمد عليه الحركة الاجتماعية، التي تصبّ في النهاية في جعل المجتمع قادرا على السلوك القويم. حينها سنرى المجتمع عبارة عن فعل ثقافي ومجتمع واع قادر على تخطّي حدود الاتكالية إلى عنفوان العمل المنتج.
فالمثقّف الذي هو قارئ بالضرورة، لا يكون مثقفا إذا ما كان منحصرا في مجال عمله مقضيا بقية ساعاته دون جدوى. إذ تساهم عزلته هذه في بقاء المجتمع غير منتج واتكالي، وبالتالي فإن تأثير هذا التصرّف غير الثقافي يحيل المجتمع إلى مجتمع متذمر وغير حضاري، وهو ما نعنيه بغير مثقف. والثقافة ضمن هذا الإطار تعني أنها ليست حكرا على أحد كما أنها ليست سلطة أو تابو، وليست قاهرة أو مكمنا إجباريا، بل هي عنوان شامل لجامعة اجتماعية مفتوحة الأبواب، وليس لها غير فعل الوعي الثقافي المنتج طريقا للسلوك وجذب الآخرين، وهي اتجاه عام وطريق يسلكه الجميع أو يجب أن يسلكه الجميع، لأن الجميع معني بها.
وكلما كان الفعل القرائي فعلا منتجا وشموليا، يفتح الذات على الآخر، كلما كانت الثقافة نتاجا متجذرا، يؤدي فعله الحقيقي في بناء مجتمع لا تسوده الكراهية أو الاتكال وغيره، مجتمع لا يمكن أن تسلط عليه قوّة تقمعه أو تعود به إلى الجهل. لأن احترام القانون من جهة وتفعيله وجعله الأساس في الحياة يعد من منتجات الفعل الثقافي. لكن ما يحدث في المجتمعات العربية اليوم هو تراجع استقبال الفعل الثقافي من قبل الأغلبية التي سعت إلى كسب مفاهيم أخرى بعيدا عن كل ما هو نتاج للثقافة الخلاقة والعميقة، ما أنتج الرأي المتعصب.
كاتب عراقي