المثقفون والطبقة الوسطى في مصر

الأربعاء 2017/08/16

لم يدرس ضباط يوليو 1952، وبالأخص قائد الحركة جمال عبدالناصر، الخريطة الاجتماعية في مصر كما كان ينبغي، فقد كان كل اهتمامه يتركز في فهم الخريطة السياسية واستغلال الثغرات الموجودة فيها لفرض الاحتكار المطلق للسلطة، وهو ما نجح فيه، ثم ضرب الطبقة الإقطاعية والرأسمالية بقوانين الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية والتمصير ثم التأميمات.

وكان مطلوبا منه مقابل ذلك، تقديم بعض الإصلاحات إلى الطبقات الشعبية التي سيعتمد عليها في دعم نظامه، فمنحها بعض المكاسب مثل تحديد ساعات العمل، والعلاج المجاني في المستشفيات العامة وجعل رسوم التعليم الجامعي رمزية فذهب أبناء الفلاحين والعمال الفقراء إلى الجامعة، لكنه لم يمنح الطبقة العاملة الحريات السياسية (ألغى مبدأ استقلال العمل النقابي، حظر الإضرابات.. إلخ).

ونتيجة تغير طبيعة الخريطة الاجتماعية تم إهمال الطبقة الوسطى وتركها تترنح تدريجيا إلى أن فقدت توازنها تماما وهوت فيما بعد، لم يكن عبدالناصر ميالا بطبعه للمثقفين والمتعلمين والمهنيين مثل المحامين والمهندسين والأطباء والقضاة وأساتذة الجامعات، وكان ينظر إليهم نظرات مليئة بالشكوك والريبة، وكان يعتبرهم احتياطيا لـ”القوى الرجعية” بسبب ميلهم الطبيعي للحريات الفردية، وقد تكفل نظامه بالتخلص من القضاة المستقلين، فيما عرف بـ”مذبحة القضاء”، التي سبقتها مذبحة أساتذة الجامعة.

وضم محمد حسنين هيكل الكثير من المثقفين إلى مؤسسة ”الأهرام” على رأسهم توفيق الحكيم، وعين عبدالحميد جودة السحار رئيسا لمؤسسة السينما، ومحمود أمين العالم رئيسا لمؤسسة المسرح، ونجيب محفوظ مستشارا لمؤسسة السينما ومديرا للرقابة، وأسند إلى فتحي غانم مؤسسة دار التحرير للنشر، ووضع لطفي الخولي رئيسا لتحرير مجلة “الطليعة”، التي أصبحت “غيتو” اليساريين. وكان عبدالناصر يتفاخر أمام هيكل، بأنها لا تكلفه سوى ألفي جنيه شهريا!

تدريجيا أصبحت الطبقة العاملة تنتظر سنويا “منحة” عيد العمال، بينما تلهث الطبقة الوسطى وراء إشباع العامل الاقتصادي، وتخلت بالتالي عن اهتماماتها الرفيعة بعد أن فقدت النموذج الذي كانت تمثله، أي الطبقة العليا، فلم تعد تهتم بالأوبرا والمسرح واقتناء اللوحات والتردد على المعارض ودور السينما وحفلات الموسيقى، بقدر اهتمامها بـ”الموالد الشعبية”، ومتابعة مباريات كرة القدم، ومشاهدة مسلسلات التلفزيون، وخطابات الرئيس.

ومع الانفتاح الاقتصادي -في عصر الرئيس السادات- تحول المهنيون الذين يحصلون على رواتب ثابتة من الدولة إلى متسولين، بينما ارتفعت دخول شريحة أصحاب الحرف عموما، خاصة مع نمو حركة البناء. وأصبح المهندس يفضل العمل في المقاولات، والطبيب يلتمس أي فرصة عمل في الخليج، والصيدلي يعمل مندوبا للدعاية لشركات الأدوية، وخريجو الكليات الأخرى سائقي تاكسيات، إذا استطاعوا!

فقد التعليم أهميته، وأصبحت الرشوة شطارة، والصحافة مهنة من يستطيع كتابة التقارير عن زملائه، وتدبيج مقالات مديح الرئيس، والاستجابة لتعليمات ضباط الأمن، وهكذا فقد أبناء الطبقة الوسطى أهم ما كان يميزهم، أي الكرامة والاعتزاز والشعور بالتميز الاجتماعي وبالمشاركة في دور فاعل في الحياة السياسية والاجتماعية والتطلع إلى الرقي والصعود، وفقد أبناؤها الإحساس بالذوق الرفيع فتدنت طريقة بناء مساكنهم، وتعكس ملابسهم سقم الذوق والتدني، وأصبحت نساء الطبقة الوسطى أقرب في مظهرهن إلى الخادمات، وبدت طالبات الجامعة حشودا من الأجساد الهزيلة النحيلة ذوات الوجوه الريفية الجافة الحزينة التائهة، يتشبثن بقطع من القماش المزركشة المضحكة، يسترن بها عوارا اجتماعيا متراكما.

وأصبح طلاب الجامعة الذين كانوا يقودون حركات التجديد والتحرر الفكري، أقرب إلى قطيع همجي سقيم الذوق، فج الطباع، يميل إلى معاداة العلوم والفنون، ويتشبث بالأساطير والخرافات فالتحق كثيرون منهم بفصائل الإرهاب ورفض الحداثة بشدة.

ناقد سينمائي مصري

16