المتقاعدون في المغرب يلوذون من هواجس الزمن بالحدائق والمقاهي

غياب الأنشطة والعزلة من المشاكل التي يعانيها المتقاعدون، وهي تتسبب في أمراض الاكتئاب وخطر الإصابة بأمراض القلب.
الأربعاء 2021/02/10
الراحة القاتلة

الدار البيضاء – في مختلف الفضاءات العامة بالعاصمة الاقتصادية، خاصة الحدائق والمقاهي الشعبية عامة، لا تخطئهم العين لأنهم بكل بساطة ألفوا هذه الأماكن وألفتهم حتى خلقوا معها صحبة استثنائية لدرجة أن أسماءهم تصبح معروفة على نطاق واسع لدى سكان كل حي.

إنهم بكل بساطة جماعة المتقاعدين من العنصر الرجالي الذين يتخذون من بعض الأماكن مواقع للقاءاتهم اليومية من أجل تصريف فائض الزمن بعد حياة مهنية طويلة، وذلك بغية خلق أجواء حياتية وملء فراغ يومهم الذي يخلو من النشاطات، والحال أن القليل منهم هم الذين يتمكنون من مزاولة نشاط مغاير بعد الحياة المهنية.

أما المتقاعدون من العنصر النسائي فتلك حكاية أخرى تظل طي كتمان الفضاءات المنزلية لأن جل المتقاعدات لا يجدن بشكل عام صعوبات في تصريف الزمن الضائع الذي يوفره التقاعد، لأن الحياة الاجتماعية في شقها المتعلق بالأنشطة المنزلية وحتى الاهتمام بالأسرة والأولاد والأحفاد تعد شغلا شاغلا وتعويضا حقيقيا عن أنشطة الحياة المهنية لم يعرفن فيها البيت خلال النهار إلا أيام العطل.

وفي تفاصيل الحياة اليومية للأشخاص المحالين على التقاعد، يتخذ زمن ما بعد الحياة المهنية أشكالا مختلفة تمليها الظروف الخاصة بكل شخص واهتماماته ورؤيته
للحياة ووضعه الاجتماعي وإمكانياته المالية.

ذلك أن حياة ما بعد سنوات من العمل تطرح إشكالات كثيرة، خاصة إذا لم يتم الاستعداد لها بالشكل الكافي نفسيا واجتماعيا، فتدبير زمن ما بعد الحياة المهنية يعني بالأساس تدبير فترات الفراغ والتي قد تشكل عبئا على المتقاعد خاصة إذا لم يملأها بأي نشاط معين والذي قد يشكل طوق نجاه للصحة الجسمانية والنفسية، وهو ما
أسر به لوكالة المغرب العربي للأنباء محمد.ج الذي كان يشتغل مسؤولا جهويا في قطاع الصناعة والتجارة بالدار البيضاء قبل أن يحال على التقاعد قبل سنوات.

ويرى هذا المتقاعد أن تدبير زمن ما بعد الحياة المهنية ليس بالأمر الهين، موضحا أنه يعرف عن قرب الكثير من المتقاعدين الذين نجحوا في ذلك مقابل فشل آخرين لأسباب متعددة.

وحسب تجربته الخاصة، فإنه كان يقضي جل وقته في مقهى بحي بورنازيل الشعبي بالدار البيضاء بمعية أصدقائه من المتقاعدين من أجل التفاعل والتواصل بشأن شؤون حياتية كثيرة وتبادل التجارب، علاوة على طرح مواضيع راهنة وطنية واجتماعية للنقاش من أجل تبادل الرأي.

وتابع أن انتشار فايروس كورونا المستجد حرم المتقاعدين من اللقاءات والتواصل، لأنهم لزموا منازلهم خلال فترة الحجر الصحي كباقي الناس وجعلهم بعد ذلك مكرهين على التقيد بمختلف الإجراءات الوقائية حتى خلال العودة إلى لقاءاتهم على قلتها، وهو ما يعني حضور هواجس أخرى لها صلة بصحتهم التي لم تترك الحياة المهنية منها الشيء الكثير الذي يمكّن من مقاومة شراسة الجائحة.

وفي مشاهد أخرى لتدبير الوقت المقتطع من حياة التقاعد، يعج مقهى بحي السدري في الدار البيضاء بالعديد من المتقاعدين الذين يختارون لعب الورق “الكارطا” كوسيلة للتنافس والانتشاء بالانتصارات في لحظات فرح ممزوجة بالصراخ والضحك من أجل التخلص من الزمن الضائع أو الفائض منه.

ومن بين المشاكل التي يعانيها المتقاعد هناك غياب الأنشطة والعزلة، ففي الوقت الذي كان فيه فاعلا في المجتمع يصبح فجأة دون وظيفة، وهذا حسب عدد من الدراسات يتسبب في أمراض الاكتئاب وأيضا زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين.

ويجلس الحاج الحبيب القرفصاء وحيدا في إحدى حدائق الدار البيضاء، يتابع المارة ويتفحص وجوههم كأنه يرى نفسه فيهم لما كان في ريعان شبابه ويتمتع بكامل صحته، يشرد تارة وتارة أخرى يبتسم ابتسامة خفيفة في وجه كل من سلم عليه ممن يعرفه أو اعتاد على رؤيته، ويقول “رغم التعب والتذمر اللذين كنت أشعر بهما وأنا في الوظيفة العمومية، إلا أنني في تلك الأيام كانت حياتي طبيعية، أعمل وأعيل أسرتي وأقابل أصدقائي، لكن اليوم أعيش في عزلة ووحدة بعد وفاة زوجتي وهجرة أولادي إلى الخارج رغم لقائي بين الفينة والأخرى ببعض الأصدقاء القدامى”.

ويتحدث الحاج الحبيب عن سنوات تقاعده الأولى قائلا “قضيت أشهرا أمضي يومي في مشاهدة التلفاز واللعب مع أحفادي حين يزورونني والنوم، لكن بعد مضي سنوات وجدت نفسي أعاني من لائحة أمراض طويلة ولائحة ممنوعات أطول”.

وقبل سنوات كانت حياة التقاعد موضوعا مقيدا فقط بهواجس مالية وانشغالات لها صلة بضيق ذات اليد في مواجهة متطلبات الحياة ومصاريف العلاجات، خاصة بالنسبة إلى الذين يكون معاشهم قليلا، لكن الآن توسعت دائرة هذه الهواجس لتمس
جوانب اجتماعية وصحية ونفسية وغيرها، وهو ما يفسر تأسيس جمعيات تعنى بشؤون المتقاعدين، بل ومنابر إعلامية تتناول مختلف أوجه حياة التقاعد.

وبالنظر إلى توسع مجال الجمعيات فقد تشكلت فدرالية الجمعيات الوطنية للمتقاعدين بالمغرب التي تروم الدفاع عن قضايا ومصالح المتقاعدين المغاربة الذين يمثلون حوالي 10 في المئة من المجتمع المغربي.

20