المتشدّدون ونظرة الاستعلاء تهديد للتراث الشعبي

التراث الشعبي المصري، على اختلاف تجلياته المادية والمعنوية والشفاهية، جزء لا يتجزأ من القوى الناعمة المصرية. لكنه، مثل الكثير من عناصر الثقافة والحضارة، يواجه الإقصاء والتهميش والتزييف على الرغم من تأثيراته القوية المباشرة على كافة أشكال الإبداع من شعر ورواية وقصة وفن تشكيلي ومسرح وغيرها. “العرب” التقت الناقد والأكاديمي المصري نبيل بهجت حول قضايا متشعبة تهم التراث والرواة.
نبدأ حوارنا مع نبيل بهجت انطلاقا من عدد من قضايا التراث التي تمس وجوده بشكل مباشر، مثل الفرق بين الراوي الأصيل والراوي المزيف وكيفية اكتشاف الروايات المزيفة والرواة المزيفين، والفرق بين التوظيف والاستلهام وكيفية استفادة الاقتصاد منه.
وبهجت أستاذ علوم المسرح وأحد أبرز الداعمين لفن الأراجوز والذي وثق لأعماله ولاعبيه ورواياته وأخرج العديد من هذه الأعمال، وأول من أسس فرقة لهذا الفن وبجهد فردي قام بتسجيله في اليونيسكو. فضلا عن جمعه وتحقيقه لأعمال كبار الزجالين وكتاب المسرح وشعراء الفكاهة مثل: الأعمال الكاملة لبديع خيري (الأعمال الشعرية، المسرحيات، المقالات، الحراريات والشخصيات)، الأعمال الكاملة لبيرم التونسي في تسعة أجزاء، الأعمال الشعرية الكاملة ليونس القاضي، كما كتب وأخرج لمسرح خيال الظل والأراجوز 36 عرضا مسرحيا عرضت في 30 دولة قدم خلالها 121 عرضا. ويعمل الآن على مشاريع توثيقية أخرى للحرف اليدوية والموالد وغيرها.
يؤكد بهجت أن آفة الفنون والعلوم الشفاهية هؤلاء الرواة المزيفون، والرواية المزيفة وهي ما عرف قديما بالانتحال في الشعر على سبيل المثال، أو الوضع في الحديث النبوي، وللأسف منذ تسجيل الأراجوز في اليونيسكو أطل علينا عدد من هؤلاء الرواة المزيفين أنتجوا كتبا وأفلاما وثائقية تحمل كما هائلا من الروايات المزيفة والمعلومات المغلوطة، وقد تبنى بعضهم عدد من الجهات الرسمية والفضائيات وبعض وسائل الإعلام لعدم خبرتهم، وأزمة هؤلاء أنهم بالتدريج يطمسون الفن ويراكمون روايات مزيفة ويحجبون الكنز البشري ويتصدرون المشهد لقدرتهم على التزييف من جانب وتبجحهم من جانب آخر.
الرواة المزيفون
يعيش الراوي المزيف على فتات المعلومات التي يلتقطها من الكنوز البشرية، ويقدم روايات مزيفة على مستوى الشكل كأن نرى عروسا بلاستيكية تمثل دمية الأراجوز، وكذلك يقدم مصطلحات غريبة وتاريخا منتحلا، كذلك لا يحفظ الراوي المزيف النص الأصلي، كونه لم يتلق خبرته عن الفن بنظام "العنعنة" والمعايشة، لذا يقدم كما هائلا من المعلومات المغلوطة شكلا وموضوعا بحثا عن بقعة ضوء يظهر من خلالها، مستغلا الأصيل أحيانا لإنتاج نسخة مزيفة تحل بالتدريج محل الروايات الأصلية.
ومن هنا تأتي أهمية الأرشيف الوطني للتراث الشعبي، وكما يقول بهجت، مشددا على ضرورة حصر الكنوز البشرية الحية ودعمها والتأكد من صدق روايتها بالجمع والمقارنة والبحث عن مصادر تعلمها من خلال المعايشة بنظام “الصبي والأسطى"، تلك هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة حالة النزيف المتعمدة ورواياته ورواته.
ويرى أنه من المهم النظر إلى التراث على أنه جزء من الاقتصاد، ويجب تعظيم مفاهيم اقتصاديات التراث ضمن الصناعات الثقافية، ومحاولة الاستفادة من القيم الجمالية والإنسانية للتراث في صناعة منتج ثقافي يعبر عنا، ويفتح آفاق السوق، ويحقق ربحا، فالاستثمارات الثقافية هي أمل المنطقة العربية في النهوض بحكم ما تمتلكه من إمكانيات فذة في هذا الصدد، وتحويل ما لدينا من معارف إلى منتجات، وأظن أن شركة ديزني حققت أرباحا طائلة من تراثنا الشعبي ونحن أولى به منها.
ويشير بهجت إلى صعوبة القول بأن التراث الشعبي لا يلقى الاهتمام والرعاية من المثقفين والجهات الرسمية، بل على العكس هناك محاولات جادة منذ وقت بعيد، وربما تجربة زكريا الحجاوي على سبيل المثال، واستلهام التراث في المسرح العربي منذ العرض الأول لمسرحية “أبوالحسن المغفل والنائم اليقظان” لمارون النقاش، والتي استلهمها من ألف ليلة وليلة، مرورا بتجارب أكاديمية تمثلت في تأسيس معاهد وأقسام تهتم بدراسته، لكن الحقيقة أن أوجه القصور لم تتمثل في الاهتمام به، ولكن في كيفية الاهتمام به ومنهج التعامل معه بشكل عام، إذ وقف البعض على قطيعة مع التراث واستغرق البعض فيه دون الالتفات إلى ما فيه من إمكانيات اقتصادية يمكن الاستفادة منها في الحاضر على كافة المستويات، ويظن أن المشكلة الحقيقية تكمن في النظرة إلى التراث، إذ انحصرت في ثنائية الإنكار والتقديس لا باعتباره معطى ثقافيا وحضاريا يمكن البناء عليه والاستفادة منه.
◙ العلاقة الجدلية بين الرسمي والشعبي لا تهدف إلى محو أي منهما، وإنما سيظل الصراع بينهما قائما بحكم تصورات كل منهما عن الآخر
ويرد بهجت أزمة التحليل ودراسة تجليات التراث الشعبي مقارنة بغيره من مفردات التراث الإنساني، إلى فكرة الإتاحة، ويقول "أولا، لأن التراث الشعبي ظل حبيس الروايات الشفاهية في معظم أشكاله، لذا لن يكون متاحا لمعظم الدارسين والباحثين مناقشة أطروحاته إلا بعد الحصول على المادة، ومن هنا يصبح الأرشيف ضرورة ملحة، وهو ما سيوفر المادة والمحتوى للتحليل والدراسة، وهو ما تحقق في الآداب الشعبية المكتوبة كألف ليلة وليلة مثلا، التي نشهد اهتماما متزايدا بها، وأيضا تجليات التراث الشعبي في الآداب والفنون، فإتاحة النصوص والمصادر أولى مستويات الدراسة والتحليل".
ويلفت إلى أن العلاقة الجدلية بين الرسمي والشعبي لا تهدف إلى محو أي منهما، وإنما سيظل الصراع بينهما قائما بحكم تصورات كل منهما عن الآخر، ورؤيته للحياة ومنهجه في تناول الظواهر وتحليل تجلياتها في الواقع، ظلت تلك العلاقة الجدلية ممتدة ومستمرة عبر التاريخ حيث نرى الأدب الرسمي والشعبي جنبا إلى جنب في كل العصور يطرح كل منهما رؤى خاصة حول الشخصيات والموضوعات، كما أن التصورات المنقولة في المصادر التاريخية عن الشخصيات الاعتبارية وتصورات الذهنية الشعبية حول تلك الشخصيات، تلك المساحة التي تلعب فيها عوامل الانتخاب والخيال الشعبي والرغبة في التثبيت والمحو والتعمية والاظهار، تشكل أحد أشكال الصراع، إلا أنه سيظل مساحة لا خلاف عليها بين الرسمي والشعبي وهي التي تشتغل على الإنسان وقضايا العدالة والحرية والجمال.
ويوضح بهجت أن "التراث الشعبي يمثل جزءا من الماضي، حمل خبرات وتصورات وحلولا، اعتمد في تكوينه على المعطيات المتوفرة آنذاك، لذا فإن استعادته كحلول لما نعانيه 'الآن وهنا' ربما يمثل خطأ منهجيا في التعامل مع الواقع، ولكن يمكن اختيار ما يناسب منه ‘الآن وهنا’ وتوظيفه جماليا وفنيا، فالتراث الشعبي هو منجز إنساني حمل في أحد وجوهه جذورنا، كما أنه كما أردد دائما وثيقة ملكية الوطن، وأحد مصادر التأريخ التي تثبت 'كنا هنا'، ويحتفظ لنا التراث الشعبي بما لم يذكره التاريخ أيضا من تفاصيل وحكايات تعد مصدرا هاما لذاكرة الإنسان. لذا لا يمكن اعتباره خطرا على التطور إلا إذا خرج عن وظيفته التاريخية والجمالية والإنسانية تماما كأي وسيلة يعتمدها لتسيير حياته".
استلهام التراث

حول رؤيته للفرق بين توظيف التراث الشعبي واستلهامه والاستفادة منه يقول "هناك عدد من مستويات التعامل مع التراث الشعبي، أولا الاستعادة: والاستعادة لا يقوم بها إلا الراوي الشعبي والكنز البشري، ومنها يقدم التراث كما هو دون حذف أو إضافة ولا يحق لأحد أن يقوم بتلك المهمة غير الفنان الشعبي الذي تعلم الفن بـ'العنعنة' (عن - عن)، والتي تعني المنقول إليه الروايات الشعبية بالتواتر عن فلان وفلان المعايش لهم والمؤدي أمامهم والمجاز منهم، وأقصد بفلان الرواة الحفظة".
ويضيف "ثانيا التوظيف: هو استخدام المنتج الشعبي داخل عمل فني جديد، بمعنى يمكن أن نضمن عرضا مسرحيا نمرة للأراجوز بشرط أن يؤدي الكنز البشري الحافظ النمرة ولا يجرى عليها مخرج العرض المسرحي أي تغيير، وإنما يستخدمها داخل السياق الذي يخدم عرضه دون تعديل أو تبديل، ومن يؤديها الكنز البشري الحافظ للتراث، وبذلك نكون وظفنا جزءا من التراث في سياق خدم العمل الفني. ثالثا الاستلهام هو الاستفادة من جزء أو موضوع أو جملة أو شكل تراثي لتأسيس عمل إبداعي جديد يعتمد في روحه على التراث كمرجعية رمزية أو دلالية، ولكنه لا يقصد إعادة التراث أو توظيفه وإنما يقصد إبداع عمل جديد، ومن حق أي فنان أن يستلهم التراث كما شاء وأن يعيد تقديمه بالطريقة التي يريدها وأن يأخذ من موضوع التراث ويترك ويعدل كما يشاء في إطار ما يخدم هدفه الإبداعي".
ويرى بهجت أن من حق الجميع استلهام التراث، أما الاستعادة فهي حق حصري على الكنز البشري، أما التوظيف فهو استخدام الكنز البشري لإبداعه في سياق يحتمل ذلك ويؤدي رسالة إبداعية لا تضر بالمادة الشعبية أو تشوهها وتخدم المنتج الفني الجديد.
ويكشف أن ما يقصده بالكنز البشري هو حامل العنصر الشعبي المؤدي له بتقاليده الشعبية وروايته التقليدية المنتقلة إليه بطريق العنعنة، ومن خلال المعايشة الطويلة بنظام الأسطى والصبي الحافظ للروايات الشعبية العارف بكل التقاليد والتقنيات المعروف لدى الجماعة الشعبية باختصاصه بالعنصر الشعبي على وجه الخصوص (معايش/ ممارس/ حافظ/ عارف/ معروف).
ويؤكد أن المهرجان الثالث لفن الأراجوز المصري هذا العام حقق نجاحا كبيرا لعدد من الأسباب، أولها المحاور المختلفة للمهرجان والتي تناولت الفلسفة والإستراتيجيات، الكنوز البشرية وكيفية صناعة الكنز البشري في مواجهة الرواة المزيفين، الأراجوز والكنوز البشرية، كما كان لتوقيت المهرجان عامل كبير في جذب شرائح مختلفة من الجمهور، هذا بالإضافة إلى تعاون مكتبة الإسكندرية في هذا الأمر، إضافة إلى جودة العروض المقدمة والتي قدمها عدد من الكنوز البشرية.
◙ هناك عوامل أكبر من التيارات السلفية تحد من حضور التراث الشعبي كنظرة الاستعلاء مثلا، أو ما يحمله التراث أحيانا من مفاهيم تجاوزها العصر
ويلفت بهجت إلى أن "هناك جامعات ومعاهد تدرس عددا من مقررات الثقافة الشعبية، إلا أن التراث الشعبي ما زال بعيدا عن مناهجنا، وأظن أن السبب في ذلك ينبع من التصورات العامة عن التراث والمعرفة والعلم، وأننا لو أدركنا أن لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا وأن واقعنا يحمل من المعارف والعلوم ما يمكن أن يتحول إلى مصادر إنتاج سيختلف الأمر تماما، نحن بحاجة إلى تغيير نظرتنا للتراث وأشكال الاستفادة منه”.
ويرى بهجت أن هناك عوامل أكبر من التيارات السلفية تحد من حضور التراث الشعبي كنظرة الاستعلاء مثلا، أو ما يحمله التراث أحيانا من مفاهيم تجاوزها العصر وعدم إدراك الوظيفة الحقيقية للتراث الذي وقع ضحية بين إنكار البعض واستعلاء البعض الآخر، ولا حل لذلك إلا بإدراك الدور الوظيفي للتراث وأهميته "فهو كما قلت وثيقة ملكية الوطن ومصدر من مصادر المعرفة ووسيلة لنقل الخبرات، ولكن علينا أن نتعلم طرق التعامل معه، والاستفادة منه، وعلينا أن نفرق بين الأصيل والمزيف أيضا، وعلينا أن نتخلص من سيطرة المركز وندرك القوة التي يمتلكها الهامش، وعلينا أن نؤمن بأنفسنا وما أنتجناه للإنسانية من فنون ومعارف، ونحسن توظيفه في حياتنا اليوم ونستلهم منه ما يعبر عنا معتمدين المنهج الذي يعلي من الوقوف بقدم في التراث والأخرى في الواقع للاستفادة من المنجز الإنساني المتراكم".