المتابعون.. رصيد افتراضي يسبب خللا اجتماعيا

فتحت مواقع التواصل الاجتماعي بابا جديدا لتحولات مجتمعية غير مسبوقة. وبرز مؤخرا اهتمام كبير بعدد الأصدقاء والمتابعين للحسابات الشخصية على الشبكات الاجتماعية الافتراضية كقيمة تضفي معنى وأهمية على أصاحبها، وهو ما دفع الكثير من رواد الإنترنت إلى العمل بكل جهد لجمع رصيد كبير من المتابعين والأصدقاء الافتراضيين، حتى تحول الأفراد إلى مجرد أرقام في منظومة طويلة لا تنتهي.
انتظر إبراهيم عبدالصمد ثلاثة أشهر حتى نهاية نوفمبر للاستفادة من تخفيضات يوم “الجمعة السوداء”. كان يمني نفسه بتخفيض ضخم على جهاز التلفزيون الذكي باهظ الثمن، الذي طالما حلم به وهو يمر بجوار أحد المتاجر الشهيرة كل يوم أثناء ذهابه إلى المكتب.
وفي اليوم المنتظر، عاد خائب الأمل بعد أن اصطدم بسؤال غير متوقع عن عدد الأصدقاء في حسابه على فيسبوك. ورفضت موظفة المبيعات تفعيل التخفيض على التلفزيون عندما أبلغها عبدالصمد بأن حسابه الشخصي على فيسبوك يجمع حوالي 500 صديق، بدعوى أن العرض متوفر فقط لمن لديهم أكثر من أربعة آلاف صديق على الموقع الاجتماعي.
لم تكن حالة إبراهيم نادرة أو استثنائية، لكنها باتت واقعا جديدا يعكس ما أحدثته التكنولوجيا بشكل عام ومنصات التواصل الاجتماعي بشكل خاص من تغيرات اجتماعية واقتصادية كبيرة يراها البعض مريبة.
وباتت المسألة باختصار تقاس بحجم وقيمة الإنسان على الإنترنت، ومدى تأثيره على الشبكات الاجتماعية بشكل خاص. كل فرد الآن أضحى يمتلك رصيدا افتراضيا موازيا لحسابه البنكي، لكن لا يقاس بما يمتلكه من مدخرات مالية بل بما يمتلكه من عدد أصدقاء على فيسبوك أو متابعين على تويتر أو معجبين على إنستغرام، والأهم عدد المشاهدين على يوتيوب.
رصيد هام
أصبح الحساب الشخصي لكل فرد على مواقع التواصل الاجتماعي انعكاسا لقيمة الشخص، فيما المتصفحون على الإنترنت أرقام وأعداد تشبه العملات النقدية. وكلما زاد عدد المتابعين امتلك صاحب الحساب قيمة أعلى، ومميزات أكبر تستطيع أن تعود عليه بفوائد كثيرة من بينها المكاسب المادية كتخفيض ضخم في متجر، وكل ما هو مطلوب نشر صورة مع المنتج على شبكات التواصل الاجتماعي مع “هاشتاغ” يحمل اسم البائع أو المنتج.
وبعد عام 2010، ومع التوسع غير المسبوق لمواقع التواصل الاجتماعي، وما أضافته التكنولوجيا من تطورات مثيرة للحياة الافتراضية، ظهرت أنماط اجتماعية مؤثرة في الواقع تقاس بعدد الأصدقاء والمتابعين على الشبكات الافتراضية، وسرعان ما بات الأمر مدعاة للفخر والتباهي وإبرازه على أساس أنه نجاح لا يقل قيمة عن الحصول على شهادة الماجستير أو الدكتوراه من جامعة مرموقة.
لم تتوقف القضية عند الانبهار بالأرقام، لكن في سنوات قليلة تحولت إلى منافسة شرسة فالكل يمني نفسه بالحصول على علامات إعجاب وتعليقات متابعيه، وإن وصل الأمر إلى نشر صور ومقاطع فيديو ليست من عادات صاحب الحساب بل بهدف نيل رضاء المعجبين فقط.
يستحق الموضوع بذل مجهود ضخم، والجلوس لساعات وأيام يفكر الفرد في كيفية إثارة المتابعين والأصدقاء الافتراضيين، فتجاوز الأمر مجرد إرضاء الغرور الشخصي أو الاستمتاع بالشهرة والنجاح، لتكتسب هذه الظاهرة ثقلا يجلب عوائد مادية.
أصبح حجم المتابعين على موقع التواصل الاجتماعي أكثر تأثيرا من مجرد توظيفه لأغراض دعائية أو تجارية أو الحصول على تخفيض أو هدايا، ومع مرور الوقت ظهرت تأثيرات مرعبة لشبكات التواصل الاجتماعي على عالم السياسة، مثل إطلاق شرارة الثورات والاحتجاجات والتظاهرات، وظهرت أيضا انعكاسات اقتصادية بتحريك أسهم البورصات العالمية، وتأثيرات اجتماعية بتغيير أساليب العيش وطبيعة العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة.
مع كل ذلك، هناك تحول مثير، ظل محصورا في يد مجموعة قليلة ممن أصبحوا يعرفون باسم “المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي” وهم أشخاص نجحوا في جذب الملايين من المتابعات لصفحاتهم وحساباتهم الشخصية على الشبكات الافتراضية.
وأفضى التطور الجديد في التعامل مع الحسابات الشخصية والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى أن تصبح علامات التقييم والإعجاب رصيدا يغير الكثير من القواعد.
يقول محمود عبدربه، وهو شاب مصري صاحب قناة على موقع “يوتيوب” يتابعها مئة ألف شخص، إن “إنتاج مقاطع مصورة ونشرها على الإنترنت ليسا رفاهية أو مجرد حب للظهور، كما يروج لهما البعض، بل وظيفة ثابتة ومصدر للرزق”.
يقوم عبدربه منذ ثلاثة أعوام بتصوير وإنتاج مقاطع مصورة ساخرة عن أسرته. وبعد زواجه تخصص مع زوجته في إنتاج فيديوهات عن الصراعات الزوجية، وأحيانا رصد التحديات بمختلف أنواعها بين الشريكين، كان آخرها مقطع حقق 400 ألف مشاهدة، تسابق فيه مع زوجته على الانتهاء بسرعة من تناول وجبة كبيرة من قطع دجاج “كنتاكي”.
أوضح عبدربه، في تصريحات لـ”العرب”، أن يوتيوب يعطي بين 10 و50 دولارا على كل ألف مشاهدة بحسب الموضوع ودرجة التفاعل وقوة حساب صاحب المقطع.
وتابع “بالنسبة إلي موقع المقاطع الشهير (يوتيوب)، هو بمثابة رب عمل أو صاحب شركة، أحصل منه على أجر يتراوح بين 3 و8 آلاف دولار شهريا”.
ولا يكتف عبدربه بأجر يوتيوب فقط، فقد يتعاقد مع شركات كبيرة لاستخدام منتجاتها أثناء تصوير مقطع، مقابل الحصول على مبلغ مالي جيد.
يعتبر عبدربه أنه لا عيب في استغلال كل الأدوات والوسائل الممكنة، مثل تصوير البعض من الأحداث واللحظات مع العائلة والأصدقاء ومن ثمة مشاركتها مع الغرباء، وهو ما قد يراه البعض انتهاكا لحرمة الحياة الشخصية وكرامة الفرد لتحقيق أرباح على مواقع التواصل الاجتماعي، ويقول “هذا هو عملي، ومصدر رزقي الأساسي، ولا أخجل منه ولا أرى عيبا في استغلال الفرص كلما أتيحت”.
ساعد التطور التكنولوجي، عبر زيادة سرعة الإنترنت وتطور مواقع التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية وتوفر أجهزة الإنتاج السمعي البصري، في زيادة شراهة رواد الإنترنت لملاحقة الإثارة بهدف كسب إعجاب المتابعين أكثر فأكثر.
يضع علماء النفس الظواهر الاجتماعية الجديدة تحت مسمى اضطراب الشخصية التمثيلي أو متلازمة التحول شبه الهستيري. فالجميع، في هذا السياق، باتوا يلجأون إلى المبالغة أو الزيف والمغالطات وحتى تقديم التنازلات في المظهر لمجرد لفت الانتباه والفوز بالمزيد من المتابعين أو الإعجابات والمشاركات.
مع ربط كل ذلك بقيمة كل شخص، كمصدر رزق أو مجال لتحقيق فوائد مادية أو حتى اعتماده كمظهر اجتماعي، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي مادة لتحفيز الاضطرابات النفسية الأخرى.
وكشفت دراسة حديثة لجامعة وستمنستر البريطانية عن وجود ارتباط ما بين التفاعل مع منصات التواصل الاجتماعي وارتفاع نسب اضطرابات الشخصية النرجسية.
وفسر القائمون على الدراسة الأمر بأنه مع تزايد التنافس على لفت الأنظار على المواقع الإلكترونية، والتركيز الشخصي في التصوير والكتابة والمشاركة، يرتفع الشعور الحاد بالذات، ما يجعل البعض يصل إلى إحساس زائف بالمجد وتبني نبرة تحقيق إنجاز كبير.
وربطت الدراسة بين تطور وظهور خصائص جديدة على مواقع التواصل الاجتماعي عززت تعبير الشخص عن نفسه ويومه، مثل خاصية القصة على فيسبوك وإنستغرام، إذ يقوم الشخص من خلالها بمشاركة الآخرين صورا ومقاطع تعمل بشكل أشبه بشريط الأخبار في المحطات التلفزيونية عبر فكرة زيادة شراهة الشخص للظهور الإعلامي.
مقاهي المنصات
لم تتوقف المسألة عند قياس الشخص بعدد متابعيه ومدى تقييمهم وتفاعلهم، إنّما تطورت لتشمل جودة ودرجة هؤلاء المتابعين؛ فبعض الشركات الكبرى اختارت أصحاب الأعداد المليونية من المعجبين على صفحات التواصل الاجتماعي ليكونوا وجهة إعلانية لمنتجاتهم، إلا أنها اشترطت في اختيارها أن يكون هؤلاء من طبقات اجتماعية واقتصادية معينة، تحديدا من شريحة الأغنياء المستهدفة.
توسعت الظاهرة حول العالم، ووصلت إلى البعض من الدول العربية أيضا، ليتحول الأصدقاء على فيسبوك إلى شيء أقرب إلى جواز سفر يساعد صاحبه على المرور إلى أماكن عامة مثل المقاهي والمتاجر والملاهي الليلية الفارهة.
تقول ليلى منصور، فتاة عشرينية، لـ”العرب” “تعرضت لموقف محرج مع أسرتي عندما منعنا من دخول مقهى بحي المعادي الراقي في جنوب القاهرة، لأن أحد رجال الأمن الخاص طالبني بفتح قائمة الأصدقاء على فيسبوك لإجراء بحث عشوائي في هوية الأصدقاء وتحديد المستوى الاجتماعي”. وتابعت “المشكلة الحقيقية أنه رفض السماح لي بالدخول لأني لا أمتلك حسابا على فيسبوك من الأساس، وهو ما رآه مسألة رجعية، متسائلا بتهكم (هل لا يزال هناك إنسان على وجه الأرض لا يستعمل فيسبوك؟)”.
وفي حادثة أخرى، جد خلاف داخل متجر شهير في أحد المراكز التجارية بمدينة 6 أكتوبر جنوب غرب القاهرة، عندما تذمر عدد من الزوار بعد منعهم من دخول ركن مغلق داخل المتجر بدعوى أنه حكر على أعضاء إحدى المجموعات على فيسبوك، التي لا يمكن الانضمام إليها إلا بترشيح وتوصية من ثلاثة أعضاء سابقين.
وقد يلعب الأصدقاء والمعجبون الافتراضيون دورا هاما في الحصول على وظيفة، تماما مثلما حدث لمحمد النوري، الذي تم رفضه عندما تقدم للعمل بشركة تسويق خاصة لأن حسابه على تويتر لم يوائم شروط الشركة.
وأضحت بعض الشركات تطلب روابط الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي للمتقدم إلى وظائفها الشاغرة، كأنها بديل عن بطاقة تعريف الشخص أو هويته الرسمية.
ويعتبر البعض أن الأمر خرج عن السيطرة، بعد أن أثرت مواقع التواصل الاجتماعي على كافة مناحي حياة الأفراد الاجتماعية، فعلى المستوى الثقافي أصبح عدد المتابعين على الحسابات والصفحات الافتراضية يستخدم مقياسا لمدى نجاح كاتب أو صحافي أو باحث أو مخرج من دون تقييم المستوى الفعلي للعمل الثقافي وموهبة صاحبه وقيمته الفنية.
واتخذ تطور هذه الشبكات الافتراضية منحى أكثر سطحية، مثل المقارنة بين الأقارب والأصدقاء والتنافس فيما بينهم على عدد المعجبين، كدليل على مهارات كل شخص وإنجازاته الحياتية الكبيرة.
ويبدو هذا التطور قابلا للتوسع في المستقبل، لاسيما أن النماذج السابقة والتاريخ القصير لمواقع التواصل الاجتماعي ومراحل تطورها تشير إلى أنه كلما زادت خواصها وقدرتها على التوغل في حياة الناس واستغلال مساحة أكبر من أوقات فراغهم، اختلت قيمة الشخص الحقيقية، وباتت الأرقام الافتراضية انعكاسا للمكانة والجودة.
ويحذر الخبراء من تلك النقطة وتأثيراتها السلبية لأن اختلال ميزان القيمة يعني عزوف الناس عن العمل الدؤوب وبذل المجهود وغياب الدافع إلى التعلم والدراسة والتطور لأجل تقديم ما يضفي على حياة الناس قيمة نوعية. ومع سهولة الحصول على القيم المزيفة من مواقع التواصل الاجتماعي وتغير معيار الجودة والنجاح وارتباطه بمعدلات افتراضية تحمل الكثير من الصدفة والتوجيه، تصبح مسألة البحث والتطور عديمة الجدوى.
وتؤكد التطورات المتعاقبة أن النزعة الاستهلاكية تزداد في العصر الحالي مقابل تراجع النزعة الإنتاجية، وهو ما قد يسبب خللا اجتماعيا وإضعافا للروابط الأساسية للتفاهم والتأقلم مع الحياة.
وقدم المسلسل الأميركي- البريطاني الشهير “بلاك ميرور” (المرآة السوداء) الذي يُعرض على نتفليكس حاليا، توقعات صادمة، أبرزها أن تصبح الحياة بالكامل قائمة على التقييم الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي التي يتبادل الناس شؤونهم وهمومهم عليها. وتعطي تلك التقييمات في النهاية النقاط التي تحدد هوية الشخص أمام العالم دون النظر إلى قيمته الحقيقية على المستوى العلمي والشخصي ومهاراته وقدراته الفردية.