"المؤلف له" ليس القارئ الذي نعرفه

ناقدة تونسية تكشف أسرار التأليف من سحر الورق إلى فتنة الرقمي.
الأربعاء 2024/07/03
القارئ ساكن في ذهن المؤلف دائما

مرت العلاقة بين المؤلف والقارئ بتقلبات وتغيرات كثيرة، لا يتحكم فيها تغير النص فحسب، بل وأيضا طرق النشر والتطورات الحياتية والتكنولوجية التي أصبحت تحكم عالم الكاتب والقارئ معا وأسست لمنظومات تواصل جديدة مختلفة، وهذا ما جعل علاقتهما تتغير. وتدرس الأكاديمية والناقدة التونسية بسمة بن سليمان هذه العلاقة وعناصر التأليف في كتابها الجديد.

اختارت الكاتبة والأكاديمية التونسية بسمة بن سليمان تصدير كتابها الجديد “المؤلف له في السرد، من سحر الورق إلى فتنة الرقمي” بما يلي “الكتابة نسيان مستمر وعودة دائمة إلى النقطة الصفر”، والتصدير يحيلنا إلى مقولة أفلاطون الشهيرة التي وردت في محاورته لتلميذه مينون وهي “المعرفة تذكر والجهل نسيان”.

 يقصد أفلاطون أن المعارف موجودة لدى الإنسان عندما كان في العالم العلوي وهو عالم المثل والفضيلة، ونزوله إلى عالم المادة جعله ينخرط في الحياة الحسية وينسى كل ما كان يحمله من معارفه السابقة، لذلك كان هدف أفلاطون من محاورة مينون مساعدته على التفلسف وتذكر المعارف التي نسيَها.

في المقابل تعتبر بسمة بن سليمان من خلال مقولة التصدير أن كل ما يحمله الإنسان من معارف وحقائق قابل للنفي، وهي بذلك تبدو غير معنية بنداء أفلاطون الذي يدفع تلامذته إلى استعادة ما كانوا يحملونه من معارف بواسطة عملية التذكر.

مفهوم المؤلف له

المؤلف له في السرد هو الوجه الآخر من ذات المؤلف يبني معه آفاق القص ويساهم في تشكيل تصوراته حول المجتمع والعالم
المؤلف له في السرد هو الوجه الآخر من ذات المؤلف يبني معه آفاق القص ويساهم في تشكيل تصوراته حول المجتمع والعالم

تقترح بسمة بن سليمان في كتابها، الصادر في تونس عن دار خريف للنشر، وجهة نظر أخرى للمعرفة، وتعتبر أن الكتابة بما هي عملية توليد للمعارف ليست استعادة لها بل هي حذف مستمر لها من أجل الوصول إلى النقطة الصفر، إلى حالة خالية من المعرفة تماما وهو ما نحتاجه عندما يكون الهدف تأسيس معارف جديدة.

ما تقترحه بن سليمان يذكرنا بمنهج الشك الذي اختاره ديكارت طريقة لحذف كل المعارف والحقائق التي يحملها الإنسان ليصل إلى الكوجيتو بما هو الحقيقة الثابتة لديه والتي من خلالها سيؤسس عالمه المعرفي فلسفيا.

غير أن بن سليمان لا تسلم تماما بالمنهج الديكارتي فهي لا تختار الشك في المعارف شكا متعاليا مثلما يقترح ديكارت بل تنزع إلى إرساء المعرفة على أساس فينومينولوجي، إذ تتقصى أشياء العالم وظواهره وأحداثه وهذا يقتضي بالضرورة حفرا وعودة إلى البدايات البكر. وهو ما يوحي بأنها تحمل مشروعا متكاملا يحتاج إلى الانطلاق من المرحلة الصفر لتأسيسه.

 في كتابها “المؤلف له في السرد، من سحر الورق إلى فتنة الرقمي” تقدم مبحثا أكاديميا تتناول فيه تصورات تبدو في شكل مسلمات غير أنها تجعلها موضوعا لأسئلة مزعجة تطرحها بحس نقدي وتفكر فيها بوعي تأسيسي، تعود بن سليمان إلى عملية التأليف في ذاتها وتربك القارئ بإعادة النظر في مفهوم التأليف بما هو جوهر العملية الإبداعية.

قسمت الباحثة كتابها إلى ثلاثة أبواب بداية بـ”الحفر في ذاكرة التأليف” يليه “المؤلف له وعالم الورق”، ختاما بالباب الثالث “المؤلف له في العالم الرقمي”.

يبدو أن ما يشغل ذهن بن سليمان في إشكالية التأليف وضعية المؤلف في علاقته الشائكة بالقارئ، وتتناول هذه العلاقة التواصلية بين الكاتب والمكتوب له، ﻷنها تعتبرها علاقة ملتبسة، تشوش على مفهوم المؤلف ذاته، فتجعل غايته من التأليف التوجيه أو القمع أو التحرير، مؤكدة أن فعل التلقي ينفلت من دائرة توقعات المؤلف نفسه، لذلك تعددت مسميات “الآخر” الذي يتلقى الأثر شفويا كان أم مكتوبا، من ذلك اعتيادنا أن نختزله في القارئ ونشير له بصيغ متعددة منها “المقول له” و”المرسل إليه” و”المروي له”.. لذلك التجأت الكاتبة إلى تعقب عملية التأليف بالعودة إلى التاريخ القديم وصولا إلى الزمن الرقمي.

 في إطار الوضع الإشكالي للتأليف تطرح الباحثة بن سليمان الأسئلة التي تشغلها والتي يمكن اختزالها في: لماذا نؤلف؟ ولمن نؤلف؟ هل التأليف وسيلة لبناء العالم أم لكشف تناقضاته؟

لعل من عناصر الجدة في هذا الكتاب أن الناقدة بن سليمان تجترح مفهوما جديدا هو “المؤلف له” وهي لا تقصد به المتلقي الذي يأخذ صفة القارئ بل تعني به القارئ الساكن في ذهن المؤلف نفسه لحظة التأليف، هذا المؤلف له غير متحيز في الزمان والمكان، فهو موجود بالقوة لا بالفعل، ويمثل عنصرا محركا لعملية التأليف. ولعل من أبرز موجبات هذا المفهوم الجديد إعادة النظر في الصفة الكلاسيكية الغالبة على كل عملية تأليف في القديم باعتباره مفطورا على الطابع الطوباوي، فتقوم بإرجاعه إلى مفاهيم من قبيل التوجيه والقمع أو التحرير والدعوة إلى نسف المسلمات، بمعنى أن هذه الأهداف مقترنة ضرورة بالمعتقد من جهة وبالسياسة من جهة أخرى. وتستعرض الناقدة بن سليمان أمثلة متنوعة من تاريخ التأليف لتؤكد ضرورة تصحيح الجهاز المفاهيمي له.

لأول مرة في التاريخ ستتخلص النصوص السردية من السلطة المتعالية للغة فتؤازر الصورة المتحركة فعل الرواية والحكي

تتحدث الناقدة بن سليمان عن المؤلف له فتقول “المؤلف له في السرد هو الوجه الآخر من ذات المؤلف يبني معه آفاق القص ويساهم في تشكيل تصوراته حول المجتمع والعالم بشكل عام”. بهذا المعنى يصبح “المؤلف له” قارئا افتراضيا يتقصده المؤلف بالتأليف، فيرافقه وينتهي دوره حالما يصل الكتاب إلى المتلقي العادي الذي قد يخرج عن دائرة توقعات المؤلف وبالتالي لا يمكن حصره في شريحة بعينها.

لتأسيس بنية نظرية ممكنة تقترح الناقدة بن سليمان العودة إلى التاريخ القديم للحفر في عملية التأليف من خلال العودة إلى المرحلة اليونانية مع هوميروس (مثلا)، غير أنها تركز أكثر على المرحلة السلطانية التي شهدت رواجا لافتا لعمليات التأليف، فتعود بالتحديد إلى مقاطع من كتاب “صفي الدين الطقطقي” للبحث في العلاقة الممكنة بين المؤلف والمؤلف له.

تذكر بن سليمان أن “الطقطقي قضى حياته متنقلا بين حواضر العراق وبلاد فارس إلى حين وفاته، بما يؤكد قيمة التجوال والرحلة في توسيع مدارك الرجل وتكوين دفاتره الفكرية، وهذا ما مكنه من مادة زاخرة بالخبرات والمشاهدات”. ومن خصائص الخطاب السلطاني أن الأساس فيه هو بناء سردية توافق هوى السلطان والحاكم والوزراء والولاة، بما يعني أن المؤلف نفسه يتحول إلى متقبل حريص على إرساء جسور تواصل بما يلبي أفق انتظار باث أصلي هو القائم على الحكم والمحدد لشروط التأليف.

ومهمة المؤلف السلطاني أحيانا تقوم على التضليل بتوفير ما يحتاجه السلطان وسدنته من ضروب المتعة والإلهاء، وكل ما يشغله عن تدبير شؤون الدولة. غير أن الطقطقي اختار أن يتجه إلى مؤلف له محتمل، حتى يتجنب الخضوع إلى توجيهات المندسين في البلاط والمشوشين على الحكم، فيخلص بذلك مؤلفه من سطوة سياسي بعينه في ظل تفكك الحكم العباسي، واختار أن يوجه خطابه السردي إلى “الولاة” لأنهم دون الخلفاء وفي نفس مرتبة الوزراء غير أنهم يهتمون بشؤون المُلك ويمثلون جسرا بين عقل المؤلف وعقل السياسي، وتستدعي الباحثة هنا ما ذكره الدكتور منذر عياشي عندما أشار أن فعل الكتابة عادة يتضمن “نداء مضمرا إلى الآخرين (الجمهور والقراء) مفاده أفصحوا عن إعجابكم بي”.

عناصر التأليف

في إطار الوضع الإشكالي للتأليف تطرح الباحثة بن سليمان الأسئلة التي تشغلها والتي يمكن اختزالها في: لماذا نؤلف؟ ولمن نؤلف؟ هل التأليف وسيلة لبناء العالم أم  لكشف تناقضاته؟
في إطار الوضع الإشكالي للتأليف تطرح الباحثة بن سليمان الأسئلة التي تشغلها والتي يمكن اختزالها في: لماذا نؤلف؟ ولمن نؤلف؟ هل التأليف وسيلة لبناء العالم أم لكشف تناقضاته؟

تتطرق بن سليمان إلى التأليف في المرحلة الورقية بابا ثانيا لدراستها، إذ اختارت أن تراوح ما بين نموذجين قديم وحديث، متنقلة من الحكاية جنسا أصيلا إلى الرواية جنسا مستحدثا، فاشتغلت على نموذجين اثنين: اﻷول حكاية سليمان التاجر الذي اقتفى في مؤلفاته أثر قوافل التجار العرب في اتجاه الشرق البعيد، والثاني رواية صنع الله إبراهيم “بيروت بيروت” التي تتبع فيها فوضى الحرب الأهلية وانفجاراتها المدوية في لبنان.

بالنسبة إلى سليمان التاجر تشير الناقدة بن سليمان أن المؤلف ينقل مشاهداته بمنطق الخيال المُدهش المغري بالرحلة، من أجل الترويج لرحلاته واستمالة المغامرين والحالمين بالسفر، لذلك جعل من نفسه دليلا للمسافرين وللتجار بالخصوص، بمعنى أن “المؤلف له” هنا هو الحالم بالثروة والمغامر في السفر، أي كل من قذف بنفسه في تجارب غامضة ومجهولة، وهذا ما يجعل الجسر القائم بين المؤلف والمؤلف له، بلاغيا يرسي التواصل على أساس التأثير والإدهاش، ويرسم الخرائط بمادة الخيال والتوهم، والقاعدة في هذا الخيال تأكيد صورة موهومة للآخر الساكن في جزر الشرق البعيد. 

أما فيما يتعلق بالروائي المصري صنع الله ابراهيم، في روايته “بيروت بيروت”، الذي رصد حالة الحرب الأهلية في لبنان، فقد أشارت الناقدة أن روايته كانت عبارة عن بحث عن الذات، لذلك نجد المؤلف يحتاج إلى علاقة صداقة مع “مؤلف له”، لأن الصداقة تعني توفر حد من التوافق في المشاعر والأفكار وضمان متعة الرفقة التي تخفف من الإحساس بالحيرة والضياع في خضم فوضى الحرب فتساعده على إيجاد أجوبة لأسئلة تسكنه حول أسباب الصراع وخلفياته وغاياته.

بمعنى أنه مع صنع الله ابراهيم تغير مفهوم التأليف في الرحلة، فلم يعد المؤلف بمثابة دليل سفر يحكم المخيال البصري، مثلما كان الأمر مع سليمان التاجر، بل هو “الصحفي” الذي يحكم عينا فطنة راصدة للتفاصيل، رصدا دقيقا دقة الكاميرا، وهو يهتم بنقل وقائع الحرب، باحثا عن ذات تشاركية تطرح أسئلة السلام والعدالة في العالم. بهذا المعنى سيكون “المؤلف له” صديقا يتمثله المؤلف، ويؤمن مثله بالأفكار الاشتراكية ويحمل شجونه وأحلامه. إذن مع صنع الله ابراهيم نرصد علاقة جديدة، تتجاوز علاقة المؤلف بقارئ نمطي نموذجي، إلى علاقة أساسها الرفقة والصداقة. ولذلك فقد تم بناؤها في إطار سردي تفاعلي تشاركي.

بن سليمان اختارت أن تراوح ما بين نموذجين قديم وحديث، متنقلة من الحكاية جنسا أصيلا إلى الرواية جنسا مستحدثا

وتأخذنا الناقدة بن سليمان إلى مرحلة ما بعد الحداثة لتَقَصي مفهوم المؤلف والمؤلف له. في ظل التحول التكنولوجي الكبير الذي انتقل بنا إلى المجتمع الافتراضي حيث سيقع تجديد مقومات النص، وﻷول مرة في التاريخ ستتخلص النصوص السردية من السلطة المتعالية للغة فتؤازر الصورة المتحركة فعل الرواية والحكي، موجهة القارئ إلى مشاهدة فيديو مرئي فيما هو بصدد القراءة. وهذا يعني أن المؤلف نفسه سيتغير ولم يعد مطالبا أن يمتلك ناصية اللغة وقواعدها بل عليه أن يُحسن استخدام البلاغة الرقمية التي تعتمد على عناصر بصرية وسمعية، وفي هذا الإطار يختفي تماما مفهوم القارئ ويتحول إلى مجرد مستخدم.

من أجل تفعيل الجهاز المفاهيمي الذي تكشف عنه المرحلة التكنولوجية تشتغل الناقدة على رواية تفاعلية رقمية بعنوان “رحلة ابن بطوطة إلى دبي المحروسة” للروائي الأردني محمد السناجلة. بظهور الرواية الرقمية تتحدث عن مرحلة جديدة هي الصناعات الإبداعية وبذلك يتم بناء جسور بين السيميائية وعلوم اﻻتصال.

توفر بن سليمان صوتا لمحمد السناجلة ليتحدث عن نفسه فيقول إنه مخرج ومؤلف. هنا لفظ “المؤلف” سيقف أمام منعرج خطير، فهو لا يقصدُه بمعناه التقليدي، بل يقصد المؤلف الرقمي الذي لا يستعمل اللغة وقواعدها فقط، بل يستخدم أيضا الخوارزميات في البرمجة الحاسوبية للقيام بعملية التأليف، بمعنى سيتغير مسار التأليف وسيمر بمراحل جديدة ومختلفة، هي البرمجة والحوسبة والتحليل. تغير إذن مفهوم المؤلف مع السناجلة من شخص نابض بالحياة إلى كيان متخيل ينخرط بدوره في نسيج الحكاية باعتباره شخصية افتراضية. 

 بتغير مفهوم المؤلف سيتغير آليا مفهوم المؤلف له فنتحدث هنا عن المستخدم، وهو الذي سيتجنب عملية التلقين الروتينية باستخدام تقنيات خاصة يتشارك فيها مع المبرمج – المؤلف، بحيث يصبح شرط العلاقة التواصلية بينهما هي إتقان استخدام الشبكة العنكبوتية، وفهم قوانين النص المترابط. 

بهذا المعنى سيتغير مفهوم النص الأدبي ويصبح الحديث عن خطاب رقمي من تحصيل حاصل، كما تصبح القصة مجرد بناء يُهندس رقميا ويتغذى من خيال موجه. ومرة أخرى يخضع إلى سلطة الإيديولوجيا بمعانيها السياسية وارتباطاتها الاقتصادية. لأن العلاقة بين المؤلف والمؤلف له وتحديدا بين المبرمج والمستخدم، هي علاقة تفاعلية في نسق تداولي رقمي، بذلك يصبح أكثر تأثيرا وأشد توجيها، دون أن كشف غاياته مباشرة. وهذه من بعض المخاطر التي تهدد عملية التأليف ذاتها. 

وهكذا نصل مع الرواية الرقمية إلى تدشين مرحلة جديدة تمثل منعرجا حاسما في عالم الإنسان عندما ننتقل من عالم المؤلف إلى خيال المستخدم ومن مجتمع القراء إلى مجتمع المستخدمين.

وفي هذا الكتاب/المبحث لم تكتف بن سليمان بتقديم رؤية عامة لعناصر التأليف، وقد مرت في ذلك بأبرز المراحل الزمنية من أجل أن تقدم رؤيتها لبنى التأليف في سياقه الزمني والتاريخي، ومثل ذلك تمهيدا لتأسيس جهاز مفاهيمي جديد للعملية التأليفية.

 ويمكن أن نحدد العملية التأليفية كما يلي: أولا المؤلف له أو القارئ الضمني، فالنزعة إلى التأسيس بينة في هذا البحث، فهي تتعامل بحس نقدي مع كل المفاهيم والتصورات التي استندت إليها بمعنى أنها لا ترص الملاحظات واﻻستنتاجات، بل تستعرض وجهات نظر متعددة إما لتصادق عليها وفي الغالب لتنقدها وتتجاوزها. وقد ظهر ذلك في أكثر من موضع في الكتاب، بمعنى أنها تقترح فرضية معينة وتبحث لها عن إشارات داعمة لها، لذلك تأتي بالعديد من اﻷطروحات النقدية الهامة لتبحث عن وجاهة ما لفرضيتها، هذه الوجاهة التي لا تكون بالضرورة متماهية مع فرضيتها المقترحة، بل قد تكون شبيهة لها إلى حد ما، أو لعلها تناقضها ولكن تؤدي إليها بطريقة من الطرق. وقد يكون ذلك في متن فكرة ما أو في تفاصيلها الثانوية، لذلك تستدعي الرؤى النقدية لتؤسس رؤيتها الخاصة، وفي هذا الإطار نجد ميشال فوكو ورولان بارطو جانتيراس ومنذر عياشي وغيرهم..

Thumbnail

عندما تتحدث بن سليمان عن الرواية الرقمية فإنها تشير إلى رؤية الناقدة الإماراتية فاطمة البريكي التي تعتبر أن الطفرة في الاكتشافات لم تساهم سوى في تطوير الحروب ونزعة العنف عند الإنسان، في حين أن الناقدة تعتبر أن الطفرة في الاكتشافات ساهمت في دعم قيم الاستهلاك ذات المنزع الاقتصادي الذي يساهم في دعم علاقات التبعية والاستعباد.

ثانيا مفهوم بطانة السرد أو الذكاء السردي: فقد قامت الناقدة بن سليمان بالاشتغال على مفهوم “مارك مارتي” (l’endo narratif) ومن خلاله قامت بابتكار مفهوم “بطانة السرد” وتعني الهامش النظري الضيق الذي يمكن به تحديد مسار الأعمال قبل دمجها في الحكي، توضح ما تقصده تحديدا من بطانة السرد بأنه نوع من الذكاء السردي الذي يوظف العناصر الجمالية والاجتماعية والثقافية والتاريخية من أجل إثراء بيئة الشخصيات ومحيطها الزماني والمكاني.

ثالثا العالم قرية النسيان: ففي إطار الحديث عن الرواية الرقمية العربية التي تدشن عهدها مع محمد السناجلة، تتحدث بن سليمان عن “كيمياء التفاعل” وهي بذلك تؤلف بين الكيمياء التي أشار إليها عالم النفس يونغ في معرض اهتمامه بلغة الكيميائيين، عندما حث مرضاه على القيام بالتخيل الفعال وإجراء حوارات داخلية ورسم أخيلتهم في صور مرئية، “وبذلك أخضع عالم الخيالات الغامض وغير الملون إلى عالم مرئي وملون” (ص 174)، وهذا ما يجعلهم يحققون نوعا من التصالح بينهم وبين ذواتهم.

تفسر بن سليمان مرحلة اﻻنتقال من عالم الورق إلى عالم الشاشة بأنها تأتي استجابة لعزوف القراء التقليديين عن التعامل الورقي وميلهم إلى استعمال الحاسوب للقراءة، وهي التي توفر لهم السرعة في التنقل بين الصفحات وتعفيهم من حمل الكتب. وهنا تنقد فكرة تحول العالم إلى قرية لتسميها قرية النسيان ﻷن ملكات التذكر فيها أصبحت قصيرة وعابرة. 

ورابعا مجتمع المستخدمين والشبكة الأخطبوطية: إن كانت بن سليمان تعترف أن توظيف العالم الرقمي يمكن أن يكون إيجابيا يساعد الإنسان على استخدام محركات البحث لتعزيز مهارة القراءة والتأليف، كما يمكن توظيفه من أجل ابتكار فنون من الحكي تناسب قيم اﻻنفتاح والحوار بما يجمع الإنسانية ولا يشتتها، فإنها سرعان ما تتدارك ذلك لتشير إلى المآسي التي يمكن أن ينتجها توظيف العالم الرقمي عندما تجعل من مجتمع المستخدمين المنغمسين في العالم اﻻفتراضي يعيشون حياة وهمية بدلا عن الحياة الحقيقية، لذلك تستغني عن مفهوم الشبكة العنكبوتية لأن خيوط العنكبوت واهية، وتقترح مفهوم “الشبكة الأخطبوطية” الأكثر شدة وصلابة وعنفا، وتقدم مثالا على ذلك أن العالم الرقمي ينجح في ترويج الأخبار الزائفة والوهمية والنبش في حياة المشاهير لتعزيز قيم اﻻستهلاك وبالتالي يساهم في تثبيت قيم التفاهة. وهو ما يجعلنا نعيش “الزمن السائل” الذي يحدثنا عنه الفيلسوف باومان في نقده لزمن الحداثة التي شوهت الإنسان وأفقدته قيمته وكرامته وإنسانيته.

في الختام لعل ما يحسب لهذا الكتاب الذي وردت فيه غزارة المعلومات ودقة اﻻستنتاجات ومنهجية التأليف، هو أنه يمثل حلقة من سلسلة لكتب لاحقة تُبنى على خيط ناظم يرسم ملامح مشروع نقدي مهم للأكاديمية بسمة بن سليمان، خصوصا وأنها تحدثت بعمق عن الرواية الرقمية وهي من المباحث المستحدثة التي تمثل أرضا خصبة للتأليف والبحث، وحسب رأيي يحسب لمن يتقدم فيها بخطى ثابتة ومواقف جريئة ورؤية تأسيسية تجعله يتقدم الجميع في مشهد أدبي تونسي وعربي يحتاج إلى باحثين لديهم الحس النقدي، وتقودهم روح المغامرة للكتابة بجدية وعمق وهو ما يتطلب شجاعة لنسف كل المعارف والمقولات للوصول إلى النقطة الصفر التي تجعل من الكتابة عملية وعي تام بقيمة النسيان، نسيان كل ما تعلمناه من أجل تأسيس معارف جديدة وهذا ما يؤكد قيمة “التصدير” الذي استهلت به الناقدة بن سليمان كتابها التأسيسي الذي يحتاجه كل مؤلف حتى يعلم على أي أرض يكتب.

12