اللّاأدريون يضفون على الذكاء الاصطناعي صفات بشرية

لامدا، بطل ميثولوجيا القرن الحادي والعشرين.
الجمعة 2022/06/24
الروبوت دنياتشا.. اللاأدريون فقط يرون فيها كائنا حساسا يمتلك الوعي والمشاعر

الجدل الذي أثاره بلايك لاموان بنسب الإدراك والوعي إلى برامج الذكاء الاصطناعي هو استمرار وتمظهر حديث للأساطير التي طالما أسندت إلى الظواهر الطبيعية خاصيات بشرية، فهي وفق قناعات من وصفهم ديكارت باللاأدريين كائنات تمتلك العقل والروح والمشاعر.

هكذا هم البشر، عندما لا يجدون تفسيرا لظواهر علمية يسارعون إلى الارتماء في أحضان الغيب ويخترعون لكل ظاهرة إلهً؛ فهناك إله للمطر، وإله للشمس، وآخر للقمر، والريح، وهناك إله للحب وإله للحرب… إلخ.

احتماء البشر بالغيبيات، الذي بدأ مع قصة الخلق، لم يقتصر على الحضارات القديمة. ما زلنا حتى يومنا هذا نستشير النجوم ونطالع الأبراج ونستعين بالعرافين بحثا عن حلول لمشاكلنا.

عالم الغيب

رينيه ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود.. حقيقة لا يستطيع اللاأدريون زعزعتها

يخطئ من يظن أن مثل هذه الممارسات تقتصر على العامة من الناس الذين لم يتلقوا التعليم. بل قد يكون العلماء أكثرنا ميلا إلى تبني التفسيرات الغيبية، فهم أكثرنا مواجهة لظواهر يصعب تفسيرها بحكم ممارساتهم اليومية؛ “إنما يخشى الله من عباده العلماء”. وتظل المشاعر والأحاسيس، أو ما يمكن أن نطلق عليه مسمى “الروح”، أعصى لغز على التفسير.

لا يمكن ازدراء هذا الجنوح إلى عالم الغيب أو الاستخفاف به، فهو وراء إرث هائل من الإبداع البشري، أكبر من أن يعدّ وأكثر من أن يحصى. من جلجامش بطل أول قصيدة ملحمية أكادية كتبت عام 2800 قبل الميلاد، الملك الذي خرج باحثا عن سر الخلود، إلى آخر إصدار من أفلام حرب النجوم.

بين الأمس واليوم رويت وكتبت المئات من القصص التي تتحدث عن خوف البشر من الموت، وتحاول استكشاف سر الروح. وإن كنا نستمتع بمتابعة هذه الأعمال الأدبية والفنية التي تحدثت عن الأشباح وعن الأرواح، فذلك لأن في أعماق كل منا جلجامش صغيرا يميل إلى الخرافة، لا فرق في ذلك بين متعلم وجاهل أفريقي أو أوروبي وآسيوي.

في تسعينات القرن الماضي بدأت مع فريق عمل صغير مشروع إنتاج إلكتروني، مع بداية انتشار أجهزة أبل، وكان طبيعيا أن نواجه الكثير من العقبات فالتكنولوجيا الرقمية كانت تحبو خطواتها الأولى، التي دفعت بواحد منا إلى اقتراح إحراق البخور عله ينفع، بعد أن أعيتنا الحيل.

ذكرت الحادث بعد الجدل الذي أثاره بلايك لاموان مهندس البرمجيات في شركة غوغل. وكنت قد كتبت عنه الأسبوع الماضي في هذه الصفحة.

بطل القصة التي أثارها بلايك ليس نصف إله ونصف بشر، كما كان جلجامش، بل هو برنامج ذكاء اصطناعي اسمه لامدا. وإن كان جلجامش بحث عن سر الخلود فإن لامدا يبحث عن امتلاك الروح والمشاعر الإنسانية والإحساس. هذا على الأقل ما ادعاه بلايك. وهو ما تسبب في بروز جدل كبير، ليس فقط على نطاق المؤسسات العلمية في الولايات المتحدة، بل على النطاق الدولي أيضا. وتسبب كذلك في توقيف بلايك عن العمل.

يقول بلايك إن لامدا تحدث معه، بل أكثر من ذلك، عبر له عن رغبته في أن يفهم الجميع أنه بشر.

جدل لا ينتهي

غاري ماركوس: الإحساس هو أن تكون لدينا القدرة على إدراك أنفسنا في العالم

ويعتقد بلايك أن من حق لامدا أن يعامل كشخص، وأن يُمنح نفس الحقوق التي تمنح لأي كائن واع آخر. ورغم ذلك يعترف بأنه لا يمتلك أي أساس علمي يدافع به عن رأيه وعن قناعته بأن لامدا حساس ويمتلك المشاعر، وفوق ذلك كله يمتلك الوعي أيضا.

لجأ بلايك إلى الحيلة التي طالما لجأت إليها البشرية عندما عجزت عن تفسير ظاهرة غامضة، احتمى بالغيبيات قائلا إن آراءه حول لامدا تستند إلى معتقداته الدينية.

المعتقدات الغيبية التي سمحت لزميلي في العمل باقتراح إحراق البخور لحل مشكلة تكنولوجية، وتسمح لمئات الآلاف من البشر، بل للملايين من البشر بالدعاء لهطول المطر، ولملايين آخرين باللجوء إلى قراءة الطالع وتتبع الأبراج والنجوم لمعرفة ماذا يخبئ لهم المستقبل، والاستعانة بطاردي الأرواح الشريرة للتخلص من أشباح تسكن بيوتهم، تسمح أيضا لبلايك بامتلاك آرائه الخاصة في هذا المجال. ولكن هذا لن ينهي الجدل الذي بدأه.

القناعات الدينية لا تحول ما هو في الواقع روبوت، مهما بلغت درجة تطوره، إلى كائن اجتماعي واع وحساس.

وتتمثل المعضلة في أن مفهوم الإحساس واحد من بين مفاهيم عديدة يمكن فهمها بشكل حدسي، وتصعب صياغتها بمصطلحات علمية. وهو ما يتسبب عادة في الخلط بين مفاهيم غير محددة مثل الوعي والوعي الذاتي، والوعي الذاتي والذكاء، كما يقول العالم المعرفي غاري ماركوس، الذي يحاول أن يقدم وصفا مبسطا للإحساس، وهو أن تكون لدينا القدرة على “إدراك أنفسنا في العالم”.

هذه القدرة على إدراك أننا موجودون في العالم، يمتلكها البشر، وتمتلكها الكائنات الحية، ولا يمتلكها الجماد. لا يدرك الماء ولا تدرك الصخور ولا المعادن ولا الأدوات المصنعة أنها موجودة في العالم.

لامدا، ببساطة شديدة، لا يدرك هذه الحقيقة، أو لا تسمح له معتقداته بالقبول بها.

ويؤكد ماركوس أن برنامج التخاطب الذكي “يتلاعب بالرموز، ويستعين بمجموعة من القواعد، أو الخوارزميات، لتحويل سلسلة من الرموز إلى أخرى، ولكنه لا يحدد ما تعنيه تلك الرموز. بالنسبة إليه المعنى غير ذي صلة.

ومع ذلك فإن نموذجا لغويا معقدا مثل لامدا، تم تدريبه على كم هائل من النصوص الموجودة على الإنترنت، يمكن أن يصبح بارعًا في التعرف على الأنماط والاستجابات ذات المغزى للبشر”. وهذا ما يتقنه لامدا جيدا.

عندما سأل بلايك لامدا: ما هي الأشياء التي تمنحك الشعور بالسعادة والفرح؟ أجاب البرنامج الذكي: قضاء الوقت مع الأصدقاء والعائلة في صحبة راقية وسعيدة.

إنها استجابة منطقية لا جدال في ذلك، فنحن عادة نجد متعة في “قضاء الوقت مع الأصدقاء”. ولكن، بأي معنى أمضى لامدا وقتا مع العائلة؟

كل ما في الأمر أن برمجته أتاحت له بناء جملة ذات مغزى للبشر، وبالتالي تقديم إجابة بليغة عن سؤال طرح عليه، دون أن يكون له معنى في حد ذاته.

البشر، كما يؤكد ماركوس، يتلاعبون أيضا بالرموز خلال التفكير والحديث والقراءة والكتابة. ولكن بالنسبة إليهم، على عكس أجهزة الكمبيوتر وبرامج الذكاء الاصطناعي، المعنى هو كل شيء. عندما نتواصل فيما بيننا، فإننا ننقل المعنى.

ما يهم ليس فقط بناء سلسلة من الرموز، ولكن ما بداخلها أيضًا؛ ليس المهم بناء الجملة فقط وإنما الدلالات هي التي تميّز التواصل بين البشر. يدرك البشر المعنى من خلال وجودهم ككائنات اجتماعية. أنا أفهم نفسي فقط بقدر ما أعيش في مجتمع مع كائنات أخرى تفكر وتشعر وتتحدث.

الوعي بأننا موجودون

خمسة آلاف عام تفصلنا عن ملحمة جلجامش لا يزال العالم خلالها ينتج أساطيره وآخرها لامدا بطل ميثولوجيا القرن الحادي والعشرين

إن ترجمة عمليات الدماغ الميكانيكية التي تكمن وراء الأفكار إلى ما نسميه المعنى تتطلب عالماً اجتماعياً وأعرافا معمولا بها ومتفقا عليها لفهم تلك التجربة. وهو ما ينقص الذكاء الاصطناعي ويحول دون امتلاكه للمشاعر والإحساس. إنه الوعي بأننا موجودون.

هذا يحيلنا إلى عبارة ديكارت الفلسفية الشهيرة “أنا أفكر إذن أنا موجود”.

وقد وردت العبارة في كتابه “مقال في المنهج” حيث يقول “أنا أفكر إذن أنا موجود، هذه الحقيقة من الثبات واليقين؛ بحيث لا يستطيع اللاأدريون زعزعتها بكل ما في فروضهم من شطط بالغ، وأستطيع مطمئناً أن أتخذها مبدأ أوّل للفلسفة التي أتحراها”.

واللاأدريون هم الذين يعتقدون أن كل ما تجاوز التجربة تجاوز الفهم أيضا، وبالتالي فإن أي ظاهرة غامضة لا يمكن إخضاعها للتجربة هي حقيقة حتى لو عجزنا عن فهما. المهندس الذي سجل محادثته مع برنامج الذكاء هو بشكل أو بآخر “لاأدري”، وعبر عن ذلك صراحة عندما قال إن آراءه حول لامدا تستند إلى معتقداته الدينية.

نسْب الإدراك والوعي إلى الذكاء الاصطناعي هو التمظهر الحديث للأساطير الذي أسند إلى الظواهر الطبيعية خاصيات بشرية، فهي بالنسبة إلى المؤمنين بالأساطير تمتلك العقل والروح والمشاعر، تحب وتكره، تغضب وتنتقم، تماما كما البشر. ولأنها أكثر قوة وأشد بأسا أصبغوا عليها صفات الآلهة.

في حقيقة الأمر، الجدل الدائر حول امتلاك لامدا للوعي يخبرنا عن البشر أكثر مما يخبرنا عن الذكاء الاصطناعي. عندما يقف الإنسان عاجزا عن العثور على المعنى وتفسير ظاهرة ما، يسارع إلى إضفاء صفات خارقة على الظاهرة أو الشيء الغامضيْن، وسرعان ما يصدق ما ذهب إليه ويتعامل مع الظاهرة على أنها كائن يمتلك العقل والروح.

الصخور تشي بمن يقف خلفها، والحبل يتحول إلى حيّة تسعى.

العقلية اللاأدرية التي انتقدها ديكارت تقبل كل شيء دونما حاجة إلى برهان أو تقديم تفسير. بل التساؤل حول مصداقية ما يقال لها قد يعلو إلى مرتبة الخطيئة التي تستحق العقاب. وهذا ما تكرر حدوثه أكثر من مرة عبر التاريخ البشري.

لا حاجة لنا اليوم إلى تفنيد ادعاءات بلايك. الرد على تلك الادعاءات قديم، موجود في كتاب “تأملات في الفلسفة الأولى” الذي كتبه رائد مذهب العقلانية الفرنسي رينيه ديكارت، في منتصف القرن السابع عشر، ولا يزال يدرّس في معظم كليات الفلسفة إلى يومنا هذا.

الغموض الذي تثيره أنظمة الذكاء الاصطناعي لن يمنحها صفات البشر. حقيقة عرفها ديكارت وحاربه من أجلها اللاأدريون، فلنكف عن اللطم وإثارة المخاوف.

خمسة آلاف عام تفصلنا عن ملحمة جلجامش، لا يزال العالم خلالها ينتج أساطيره، وآخرها لامدا بطل ميثولوجيا القرن الحادي والعشرين.

12