"الليلة قبل الأخيرة".. قصص الحنين والمفارقات الساخرة

عمان- تُقرأُ المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب محمود الريماوي بأمزجة متنوعة، غير أن ما يبرز من داخلها هو أنها تضم نصوصا تجسد حالات من الفقد والحنين.
وتمثل المجموعة التي جاءت بعنوان “الليلة قبل الأخيرة” تراكما لعطاء الريماوي الإبداعي الذي يمتد إلى ما يزيد على نصف قرن، وهي تضفي على عطائه هذا مسحة من السخرية وخفّة الروح والدعابة، مع المزج بين الواقع والمتخيل، وتجاوز هذا الواقع إلى الغريب والعجيب، مما يسبغ على السرد متعة القص.
ويظهر الريماوي في المجموعة الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون”، لا بوصفه وصيا على النص أو ضابط إيقاع لما يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ، بل بكونه يمثل حالة تمارس ثراءها النفسي فوق الورق، تقودها في ذلك “حمى” الكتابة التي تأتي بغير موعد.
لا تحيد قصص المجموعة الجديدة عن أسلوب الريماوي القائم على المفارقات، ففي قصصه نجد أنفسنا أمام جوّ عام من المفارقات المشهدية واللفظية
وتصور المجموعة كذلك رحلة بين الشخصي والعام، بين قسوة الموت وغربة النفس وغياب المشترك الإنساني وفقد الوطن. ولكل مرحلة آثارها الوجدانية التي تنطبع في عوالم الشخصيات أو تجسدها الأماكن والشارات والأعلام والرموز. إنها قصة الحنين الذي لا يغيب، القادر على التجدد وملامسة القارئ في أعماقه.
ومن مظاهر الحنين في المجموعة وصف الكاتب لـ”عين فياض” التي تسقي “بيت ريما” مسقط رأسه، فيقول “المسافة بين البيت وعين فياض تزيد قليلا عن كيلومترين. والطريق تحفّ بها نباتات قصيرة وطويلة، متشابكة وهائجة، وتطغى عليها النباتات داكنة الخضرة، ولا تخلو من حجارة ومن نباتات شوكية. تقطع الصبيّة المسافة بنشاط جمّ وبانشراح ظاهر، إذ يوفر لها أداء هذا الواجب العائلي رضا الوالدين المُسنين، وفُسحة لشم الهواء في ساعات ما بعد الظهر، ورؤية صديقات من بنات العائلة أو العائلات أخرى”.
ويصف الريماوي حال الصبية خلال اجتياز هذه المسافة كل يوم “لكن رغم النظرات الجارحة، ورغم ميلان الجسم ومراوحته إلى أسفل ثم إلى أعلى خلال المشي، فإن الجرة الفخارية على الرأس يرافقها ساعد الصبية تبقى بأمان وسلام. قد تسيل دمعة ساخنة من عين صاحبتها، أما جرة الماء البارد فلا ينسكب منها شيء”.
ويصف الكاتب في قصة أخرى مشهد احتضار الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان ولقائها المتخيل بأخيها الشاعر إبراهيم طوقان في تلك اللحظة، “إبراهيم، رغم ابتسامته المشرقة، ورغم ضباب الرؤية، يهش ويبش لها، وذراعه في القميص الأبيض المشمور تُلوح بحركة ملهوفة، تهتف بدعوته لها للمجيء، للمجيء السريع.
– قادمة قادمة.. أنا في الطريق إليك.
وفي وقت متأخر من الليلة التالية، ليلة الجمعة 12 ديسمبر، وبابتسامة وادعة حيية، وبجُرمها الخفيف الرشيق، حلقت فدوى بجناحين من شوق وانعتاق، بينما جمهرة الورد حولها من كل لون وتكوين وعبق، الورود الفاتنة كانت تسترخي ناعسة وصامتة حولها، وثمة براعم منها تترقب شقشقة الفجر القريب كي تتفتح”. ويشير الريماوي في شهادة إبداعية تضمنتها المجموعة إلى أن الكاتب “لا يعود هو نفسه حين يتحدث عن كتابته”، وأن “الكاتب الذي يكتب ما هو ثاو في النفس لجدير بأن يجدد مواعيده مع القارئ، مقدما في كل موعد دهشة جديدة، وحنينا يليقُ بطول السنين”.
ويصف الريماوي نفسه قائلا “لا أجدني إلا كوني النزعة، ولا أجد فروقا بين البشر المحليين وبقية البشر رغم أن لكل مجموعة بشرية خصائصها الثقافية والسلوكية. ويستوقفني كثيرا الأطفال وكبار السن أكثر من الأجيال الشابة، التي تهجم على الحياة بغرائزها وبعنفوان نصف بصير ونصف أعمى. خلافا للأطفال وكبار السن الذين يتميزون بالبراءة، ونضج المشاعر، وإدراك ما تتسم به الحياة من جمال وتفاهة معا!”.
ويؤكد الريماوي أنه عندما يكتب ينتبه أيضا للكائنات غير البشرية (الطيور والحيوانات وحتى الحشرات والأشجار والنباتات)؛ فالحياة “أوسع من حياة البشر”، إذ أنها تضم حياة الكائنات الأخرى إلى جانب مفردات الطبيعة من جبال وأنهار وبحار ورياح وأمطار.
ولا تحيد قصص المجموعة الجديدة عن أسلوب الريماوي القائم على المفارقات، ففي قصصه نجد أنفسنا أمام جوّ عام من المفارقات المشهدية واللفظية، مفارقات مثيرة للسخرية الناعمة، ومواقف غير معقولة ومتنافرة مع الواقع، أو تتسامى عليه باشتباك أصحابها مع أحلام وهواجس وأفكار ذات نفحة أخلاقية عالية، وبحث طفولي مفعم بالبراءة والحساسية عن الألفة والوداعة والجمال في الكائنات الحية.
المجموعة تصور رحلة بين الشخصي والعام، بين قسوة الموت وغربة النفس وغياب المشترك الإنساني وفقد الوطن
والمفارقة تعني التخفي تحت مظهر مخادع، والتظاهر بالجهل عن قصد، ومن أهم خصائصها: التناقض والسخرية والغموض والوعي الضدي والعجائبية والفطنة والجروتيسك والعبث.
يُذكر أن محمود الريماوي قاص وروائي أردني – فلسطيني من مواليد عام 1948، يقيم في عمان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولا مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية.
صدرت للريماوي عدة مؤلفات في القصة والرواية والنصوص نذكر من بينها “العُري في صحراء ليلية” (1972)، “الجرح الشمالي” (1980)، “كوكب تفاح وأملاح” (1987)، “ضرب بطيء على طبل صغير” (1990)، “غرباء” (1993)، “الوديعة” (2001)، “فرق التوقيت” (2011)، “عم تبحث في مراكش” (2015)، “من يؤنس السيدة” (2009)، “حلم حقيقي” (2011)، و“ضيف على العالم” (2017) وغيرها.