اللغة كمؤسسة قابلة للتفكيك

الجمعة 2015/07/31

لا يخلو الأمر من الإشكاليات عند الحديث عن الكاتب السعودي عبدالله القصيمي وخصوصا كتابه الأشهر “العرب ظاهرة صوتيّة”، فتجربة انتقاله من السلفية إلى الإلحاد تعتبر أمرا مغريا للكتابة وخصوصا عند مناقشة مؤلفه السابق، إلا أن المثير للجدل أنه وبعد حوالي الأربعين عاما على تأليف الكتاب، ودخول المنطقة العربية في مرحلة التغيير والثورات، فهل مازال من المجدي الحديث عن الكتاب السابق أو الاستفادة من الأفكار الكثيرة التي بثها؟

بالرغم من اللهجة الغاضبة الذي يتحدث بها القصيمي وتركيزه على أن انتصار العرب للكلام على حساب الفعل هو أساس مشكلاتهم، إلا أنه يركز وينتقد المؤسسات التي لم تعد صالحة أو في الأصل فاقدة لصلاحيتها والدور الذي لعبته بإغراق الأمة العربية في الجهل، لكن الآن، الشعوب العربية هتفت في الساحات مطالبة بالحرية، وتجاوزت مرحلة الكلام وربطته بالفعل.

ففعل النزول إلى الشوارع والهتاف في حدّ ذاته هو انتصار، ونزع لشرعية السلطة القائمة التي مهما كثر الكلام في انتقادها إلا أنها لم تتغير إلا بالفعل، وهذا ما يثبته الربيع العربي الآن، أما الانتقاد الذي وجهه القصيمي للمؤسسات في تلك الفترة، فمازال قائما في ما يتعلق بـ”اللغة كمؤسسة”، إذ رغم تعرض المؤسسات القمعية للتفكيك من أجل بناء الدولة الجديدة وإيجاد المؤسسات التي تستجيب للمطالب التي ثارت الشعوب من أجلها، إلا أن اللغة مازالت حصينة والعقلية التي أنتجتها مازالت حاضرة، والتي تنعكس باللغة والخطاب المضاد.

فاللغة العربية كمؤسسة ذكورية سلطوية مازالت محشوة ومليئة بتجليات ورواسب التاريخ القمعي، وهذا ما يعيد الانتصار للكلمة على حساب فعل التحول الذي أنتجه الفعل الثوري، الذي لا بد أن يمتدّ وينعكس ضمن الخطاب الثوري لنزع الشرعية عن اللغة القديمة، لا الدخول في إعادة إنتاجها ولو اختلفت التسميات، أي محاولة التحرر من البنى الفكرية التي تولد مفاهيم وثنائيات تنتج دكتاتوريات جديدة، وهذا ما يُبرز أهمية التوجه نحو تفكيك اللغة لإنتاج معان جديدة لا التورط في الخطاب السابق.

فاللغة مؤسسة كغيرها لكنها بحاجة إلى أدوات مختلفة ومفاهيميّة كي تُفكك، وجهود بحثية لتهديم البنى القمعية التي تحويها، خصوصا التقسيمات والتوصيفات التي أنشأتها المؤسسات السلطوية والتي يتجلى فيها العنف الذي تمارسه -ومارسته- عبر اللغة، أما الذين شاركوا في الفعل الثوري أو حتى النقد فإننا نراهم -دون دراية أحيانا- يخضعون لذات البنية اللغويّة التي ولدتها المؤسسة المُراد تفكيكها، لنرى أنفسنا أمام دكتاتوريات تعيد إنتاج نفسها لأن خطابها مازال حاضرا، أو أن بعض المشاركين في الفعل الثوري أوغل في الرومانسية والأحلام، وهذا ما حدث في العديد من بلدان العالم العربي.

لا يمكن إنكار المكانة الرفيعة التي تمتلكها اللغة بالنسبة إلى العرب فهي مقدسة في حدّ ذاتها وتمتلك طابعا ماورائيا وينسحب ذلك على الممارسات المرتبطة بها، وإن كان القصيمي قد انتقد العرب بوصفهم كائنات كلاميّة وصوتيّة فذلك يستدعي في زمن الثورات إعادة تفكيك، بل وانتهاك لأهم مؤسسة تحكم العقلية العربية وتفكيرها ألا وهي اللغة، بوصفها الحاضن والحافظ للأفكار والمؤسس لآليات إنتاج هذه الأفكار، فالدكتاتوريات والتاريخ لم يمارسا العنف على الشعب فقط، بل على اللغة أيضا، وينعكس ذلك في النصوص السابقة والتي مازالت آثارها حاضرة لأن تأثيرها تجاوز مرحلة الكلام والتداول اليومي ودخل ضمن مؤسسة اللغة لتصبح جزءا من بنية التفكير، أمّا الدعوة للانتهاك فلا تقتصر على الممارسات الشعرية والأدبية، بل تنسحب على كافة البنى القادرة على توليد النصوص وتكوين الثقافة.

كاتب من سوريا

14