اللصوص الحقيقيون هم جامعو الآثار

بول بان: الاكتشافات الكبرى في المستقبل ستكون عن طريق الصدفة.
الأربعاء 2024/06/26
ماض لا يقدر بثمن يواجه مخاطر الزوال

تمثل الآثار وثائق تاريخية غاية في الأهمية تحمل في أعماقها الكثير من الأسرار لفهم ماضي البشر وسد الفراغات التي بقيت إلى الآن مجهولة في مسار التاريخ الإنساني. ولكن رغم قيمتها المعنوية الكبيرة فإنها تواجه تحديات الحفاظ عليها من عوامل عديدة لعل أهمها النهب والتدمير.

عادة ما يربط عموم الناس بين علم الآثار والحفر وكأنه جل ما يفعله المشتغلون في مجال الآثار طيلة الوقت؛ ولا تبرح المجلة البريطانية الساخرة “برايفت آي” تصور عالم الآثار في صورة “رجل ذي لحية واقف في حفرة”. وعادة ما تصور أفلام الكرتون علماء الآثار في صورة أناس عتيقي الطراز، ينبذون الحداثة ويؤثرون عليها التراث القديم؛ مثل الأواني الفخارية والأدوات المصنوعة من العظام. ولا شك أن هذه الصورة صحيحة، ولكنها لا تبرز إلا جزءا ضئيلا للغاية عن علم الآثار. مثلا، بعض علماء الآثار لا يشتغل بالتنقيب مطلقا، وقلة منهم يقضون أوقاتهم في أعمال التنقيب.

يقدم أستاذ علم الآثار بجامعة كامبريدج بول بان، في كتابه “مقدمة قصيرة جدا.. علم الآثار” دليلا نتجول من خلاله بين جنبات الماضي الإنساني، ونتجاوز به حدود الزمان والمكان لنلقي نظرة على العديد من المواقع الأثرية ذات الأهمية في مختلف أرجاء العالم. كما نتعرف على علم الآثار، ونستكشف بعض أسراره المثيرة؛ فمن الصحارى إلى الأدغال، ومن الكهوف العميقة إلى قمم الجبال، ومن الأدوات الحجرية إلى صور الأقمار الصناعية، ومن التنقيب إلى التنظير، يتفاعل علم الآثار مع أغلب التخصصات الأخرى في محاولاته لإحياء الماضي. ويستعرض أيضا الاكتشافات الأثرية والتفسيرات الحديثة، ويسلط الضوء على تأثير التطورات العلمية والتكنولوجيا والعلم في مجال الاستكشاف الأثري؛ بدءا من التصوير النووي، ووصولا إلى نظام تحديد المواقع العالمي.

تحديات حماية الآثار

ل

يرى بول بان في كتابه، الذي ترجمه إبراهيم سند أحمد وصدر عن مؤسسة هنداوي، أن معظم الاكتشافات الكبرى في المستقبل ستخرج إلى النور عن طريق الصدفة، مثل رجل الثلج أو كهف شوفيه؛ لأنه سيكون هناك انخفاض مطرد في عمليات التنقيب البحثي (وهذا على عكس عمليات التنقيب “الإنقاذية” التي ستستمر في الزيادة مع تزايد وتيرة التعمير والتطوير الحضري). ومن أسباب هذا الانخفاض أن التقنيات الحديثة، التي لم تتصور بعد ستزيد قدرتنا على “رؤية” ما في باطن الأرض من دون الحاجة إلى حفرها. وهذا “مفيد لنا؛ إذ أن حفر الأرض عن طريق التنقيب الحذر والمضني عملية مكلفة من حيث الوقت والمال”؛ وسبب آخر وهو ضرورة دراسة المواد الأثرية والبقايا الهائلة التي لم تحلل ولم تنشر على مستوى العالم، ما أدى إلى اكتظاظ مخازن المتاحف بها، أو ضرورة طرح أسئلة جديدة عن المواد التي درست بالفعل؛ وسبب ثالث وهو الحاجة المتزايدة والملحة إلى الحفاظ على المواد المكتشفة بالفعل، بدلا من التنقيب عن مواقع جديدة في حين أن بقاءها في باطن الأرض أمان لها.

ويؤكد بان أن الحفاظ على هذه الآثار سيصبح من المحاور الأساسية في علم الآثار كليا؛ إذ أننا نحاول الحفاظ على الكميات الهائلة من المواقع والهياكل والمصنوعات اليدوية، والملايين من الصور المعروفة للفن الصخري على مستوى العالم. وتتعرض العديد من المواقع الأكثر شهرة بالفعل إلى تهديد هائل؛ فتمثال أبو الهول مهدد بسبب التقلبات المناخية وكذلك تسرب مياه الصرف الصحي من الأحياء الفقيرة القريبة، ومقبرة توت عنخ آمون من التصدع والأضرار الناجمة عن فيضانات عام 1994، وموهينجودارو في باكستان التي تواجه عوامل التعرية والتآكل الملحي، وأكروبوليس في أثينا التي تعاني من التلوث والتغير المناخي الذي تسبب في نمو فطر أسود عميق داخل الرخام، والقناة الرومانية في سيجوفيا بإسبانيا وتعرضها لتلوث السيارات والطقس القاسي وحتى فضلات الطيور.

في عام 2010 وحده، في إيطاليا، انهارت أجزاء من سقف قصر نيرون الذهبي، والجص من سقف الكولوسيوم، وجزء كبير من بيت المصارعين في بومبي، بسبب الأمطار الغزيرة على ما يبدو. وتبذل فرق مخصصة من معهد جيتي للحفاظ على الآثار بكاليفورنيا، أو الصندوق العالمي للآثار، جهودا هائلة للحفاظ على المواقع والآثار من جميع العصور وجميع أنحاء العالم وتعزيزها، ولكن حتى موارد جيتي، التي لا حدود لها على ما يبدو، لا تعدو كونها قطرة في محيط عندما يفكر المرء في المبلغ الهائل من المال المطلوب لإنقاذ كل شيء.

ويشير بان إلى أن التكنولوجيا الحديثة سيكون لها دور ذو أهمية متزايدة؛ مثلا، في تسجيل الفنون الصخرية، يسهّل نظام تحديد المواقع العالمي تحديد المواقع التي كان من الصعب جدا العثور عليها حتى الآن في الصحارى أو مناطق الغابات. إضافة إلى ذلك، توافرت تقنيات جديدة غير تدخلية لتسجيل النقوش المحفورة في الصخر والنقوش الموجودة في نماذج ثلاثية الأبعاد؛ والتقنية الأكثر كلفة هي المسح الليزري، الذي يؤدي أحيانا إلى اكتشافات جديدة؛ مثلا، في عام 2003، وبعد 50 عاما من رصد نقوش منحوتة على خنجر وبعض الفؤوس للمرة الأولى على بعض الحجارة القائمة في ستونهنج، كشف المسح الليزري عن نقوش صخرية شديدة التآكل لم تكتشف من قبل ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

كتاب "مقدمة قصيرة جدا.. علم الآثار" يقدم دليلا شاملا نتجول من خلاله بين جنبات الماضي الإنساني

 وثمة طريقة بديلة أرخص، وتتسم أيضا بالكفاءة وتستخدم جهازا محمولا، وهي طريقة النمذجة ثلاثية الأبعاد من الصور الفوتوغرافية؛ إذ أنها تستخدم برنامجا تجاريا مثل برنامج “فوتومودلر”. ومع ذلك، فإن معظم التطورات البارزة أحرزت من خلال المعالجة الرقمية وتحسين اللوحات المرسومة باستخدام الكمبيوتر، حيث يمكن اكتشاف واستخراج صور أصبحت باهتة، لدرجة أن العين المجردة لا تكاد تراها؛ مثلا، أمكن التعرف على 16 لوحة مرسومة في موقع يسمى كابادول كولا بشمال أستراليا، لكن أدى استخدام تقنيات تكثيف الألوان على الصور الفوتوغرافية الرقمية إلى اكتشاف 28 صورة أخرى. وأطلق على تقنية من التقنيات الحديثة لاكتشاف اللوحات المرسومة الباهتة اسم “دي سترتش”(DStretch)؛ إذ أن حرف D يعبر عن فك الترابط، وكلمة stretch تعبر عن تمديد تباين الألوان، وبذلك يزيد الكمبيوتر من وضوح الفروق الدقيقة بين الألوان، ومن ثم لا تسجل الصور الباهتة أو غير المرئية فحسب، بل يمكن الحصول على أدلة لترتيب التراكب.

ويؤكد بان أن التهديدات الرئيسية للمواقع والمواد الأثرية لا تأتي كثيرا من التدهور الطبيعي أو الإهمال، بل من الأضرار التي يسببها البشر بطرق متنوعة. حيث أن الزيادة المطردة لشهرة علم الآثار لها نتائج سلبية، والسياحة الجماعية تحمل معها مخاطر “حب علم الآثار حتى الهلاك” بسبب الأضرار المتزايدة التي تلحق بالمواقع؛ لأن الملايين من الأقدام تطأها وتتنفس فيها الملايين من الرئات، فضلا عن الأضرار (ولحسن الحظ أنها نادرة) التي يسببها المخربون عمدا، أو الحروب أو المناورات ولكن بشكل أقل؛ مثلا، أحدث الجيش أضرارا جسيمة أثناء التدريبات في سهل ساليسبري وفي جنوب فرنسا. ومع تراجع خطر الحرب الباردة، أطلق العنان للدبابات والبارود على تلال الدفن الخاصة بحقبة ما قبل التاريخ.

ويقر بان بوجود عامل آخر أشد تدميرا بكثير، وقد ظل معنا للآلاف من السنين (مثل سرقة المقابر في مصر القديمة)، ولكنه تفشى في السنوات الأخيرة؛ ألا وهو نهب المواقع الأثرية ممن يحفرون بحثا عن المكاسب المالية؛ إذ أنهم لا يبحثون إلا عن القطع الأثرية التي يمكن بيعها ويدمرون أي شيء آخر بشكل عام. والحرب يمكن أن تساعد هؤلاء إلى حد بعيد، كما هي الحال في لبنان، مثلا، حيث أدت الأعمال العدائية إلى نهب آثار البلاد وشحن آلاف الأطنان من القطع الأثرية سرا على يد الميليشيات والتجار معدومي الضمير.

كذلك، سرعان ما تدهورت حالة التماثيل الضخمة في معبد أنجور وات بكمبوديا في فترة الصراعات التي شهدتها البلاد، ويرجع السبب إلى انقطاع الترميم فترة طويلة، وكذلك إلى عمليات النهب واسعة النطاق في فترة حكم بول بوت. أيضا بعد سقوط بغداد عام 2003، تعرض المتحف الوطني بالعراق إلى عمليات نهب بكثافة، وسرقت العديد من القطع الأثرية، ولم يستعد منها إلا عدد قليل. وفي ثورات الربيع العربي عام 2011، وقعت حوادث سرقة من المتحف المصري بالقاهرة، ولكن لحسن الحظ أن الشعب المصري حمى المبنى ضد المزيد من الهجمات. وبطبيعة الحال، تكرر تعرض المتحف الأثري الوطني الأفغاني، الواقع خارج كابول، للقصف والنهب في تسعينات القرن العشرين عندما كانت الفصائل تتقاتل عليه في ذلك البلد. ويعتقد أنه تمت سرقة 70 في المئة من أصل 100 ألف قطعة معروضة، وقد تعرض المبنى إلى تدمير بالغ بنيران الصواريخ. وواضح أن الحرب والثقافة لا يجتمعان.

نهب التاريخ

Thumbnail

يقول بان “أكثر ما يبعث على الحزن في هذه السرقات هو فقدان المعلومات حين تقتطع هذه الاكتشافات من سياقها الأصلي. قد تحلو القطع الأثرية في أعيننا، ولكن المعلومات التي كان من الممكن أن تقدمها لا تقدر بثمن. الأمر أشبه بالفرق بين رؤية صور فوتوغرافية لأشخاص مجهولين من القرن الماضي لا تحمل أيّ تعليق توضيحي، ورؤية صور تحمل نصوصا توضيحية عن تاريخ الصورة وموضوعها، وما إلى ذلك. ربما تجذب الصورة الأولى العين أحيانا أو تراها العين جميلة أو ممتعة (مثل الأزياء التي يرتديها صاحب الصورة)، ولكن المرء يحصل على المزيد بلا حدود من الصور التي تحمل نصوصا توضيحية. وهذا ما لا يفهمه جامعو القطع الأثرية؛ إنهم يعرفون سعر كل قطعة ولكنهم لا يعرفون قيمتها. من المؤكد أن اللصوص الحقيقيين لهذه الآثار هم جامعوها في عصرنا الحاضر”.

ويرى أنه “لا يسع المرء أن يلوم الفقراء البؤساء في بلدان العالم الثالث على تنقيبهم عن الأشياء ‘الثمينة‘ في باطن الأرض؛ إذ أنهم يعلمون أنهم سيكسبون مزيدا من المال من أجل إطعام عائلاتهم حين يبيعون قطعة أثرية قيمة واحدة أكثر مما يكسبون من العمل الشاق. لكن في البلدان الأخرى مثل بريطانيا وأميركا، توجد عصابات لصوص احترافية وجيدة التنظيم، ولا تمتلك أدوات عالية التقنية فحسب، بل إنها جيدة التسليح. وإذا لم توجد أسواق مستعدة وأغلقت الأبواب بفاعلية، كما حدث في تجارة العاج منذ بضع سنوات، فإنهم لن يتراجعوا”.

التهديدات الرئيسية للمواقع والمواد الأثرية لا تأتي من التدهور الطبيعي أو الإهمال بل من الأضرار التي يسببها البشر

ويضيف بول بان “قيل ‘إن اللصوص الحقيقيين هم جامعو الآثار‘، وهذه عبارة صحيحة تماما. يبرر العديد من جامعي الآثار أنشطتهم؛ إذ يزعمون أنه من دونهم لن تحفظ هذه ‘القطع الفنية‘ الجميلة، والمتاحف لا تمتلك الموارد الكافية للعناية بهذه القطع على النحو اللازم. يحمل الرأيان وجها من الحقيقة، ولكن تفوّقهما حقيقة بسيطة مرّة مفادها أن السوق والأسعار الفلكية التي تدفع في قطع أثرية لتزيين الشقق في سويسرا أو أرفف المواقد في مانهاتن هي التي تشبع جشع النهب في النهاية، وهي التي تتسبب في نهب وتدمير عشرات الآلاف من المقابر القديمة والمواقع الأخرى كل عام”.

ويبين أنه حتى المتاحف لا تسلم من النهب الآن، حيث تسرق القطع الأثرية المعروضة (ولا يمكن عرضها للبيع العلني) ويبدو أنها تكون حسب الطلب، متابعا “الأرجح أن من يطلبها شخص تعيس أناني معتوه ومصاب بجنون العظمة، من أجل أن يفرح مستأثرا بها لنفسه، وهو قابع يربّت على قطة صغيرة ويحلم بالسيطرة على العالم، أو ربما بتغيير حياته”.

ويخلص إلى أن الجانب الأكثر إشراقا وأكثر ديمقراطية في شهرة علم الآثار هو ازدهار مراكز التراث والمتاحف حول العالم التي تضم أجهزة حاسوبية تفاعلية، وشاشات العرض فائقة الحداثة الرائعة والتعليمية والمسلية، والأماكن التي يمكن أن يمارس فيها المرء بعض أنواع علم الآثار التجريبي، وحتى “مراكز الاكتشافات العملية” التي توفر فرصة اللقاء مع علماء الآثار. كذلك تعرض الصور المجسمة في المتاحف الأكثر ثراء، كما تتطور تكنولوجيا الواقع الافتراضي بحيث تمكّن الناس من زيارة المواقع التي اختفت من الوجود (مثل دير كلوني الفرنسي في العصور الوسطى) أو التي لا يمكن فتحها أمام السياحة الجماعية (مثل كهفي لاسكو وكوسكير المزينين في العصر الجليدي). ولذا في نهاية المطاف، سيمارس قدر كبير من السياحة الأثرية في المنزل، من فوق كرسي بذراعين، وهذا سيخفف الضغط عن المواقع، على الرغم من أن التوسع السياحي وآفاق السياح الآخذة في الاتساع لا تبرح تضغط على مناطق جديدة.

12