اللحن واللون يتكاملان في عرض سوري

"نحن واللوحة".. مشروع تخرّج جمالي يحوّل الرسومات إلى معزوفات.
الثلاثاء 2021/08/17
يزن الجاجة في عزف منفرد على آلة اللوت

البعد الجمالي هو الهدف المشترك لكل الفنون، وهو الذي يسعى المبدعون للوصول إليه عبر تجليات وإبداعات يقدّمونها في أعمالهم، وللفن التشكيلي عوالمه الإبداعية الكامنة في الموسيقى وكذلك العكس. هذا ما حاول الإجابة عنه العرض الموسيقي الجمالي “نحنا (نحن) واللوحة” الذي قدّم في دار أوبرا دمشق.

دمشق – أقام المعهد العالي للموسيقى بدمشق مؤخرا حفل تخرّج طلابه للعام الحالي، وكان عددهم ستة، وهم: يزن الجاجة وماهر خضر وجميل المعري وفارس الدهان وحنين ملحو وزينة نوفل، وذلك تحت إشراف رهف شيخاني أستاذة مادة علم الجمال في المعهد التي قدّمت فكرة جمالية خصّت بها عرض التخرّج حملت اسم “نحنا (نحن) واللوحة” تمثلت في إيجاد علاقة جدلية بين عدد من اللوحات الفنية العالمية الشهيرة التي اختارها الخريجون والمعزوفات التي قدّموها في الحفل من زاوية علم الجمال.

فقدّمت لوحات “حوريات الغابة” و”منظر عام من البندقية” و”المأساة” و”سلم الهروب” و”ليلة مرصعة بالنجوم”. وقام الخريجون باستحضار عوالم إبداعية موسيقية مستوحاة من هذه اللوحات قدّموها في شكل أنغام موسيقية مجسّدة على آلات موسيقية شرقية وغربية.

وعلى امتداد ثلاثة أسابيع تدرّب الخريجون على ترجمة أحاسيس هذه اللوحات إلى مجموعة من النغمات الموسيقية على آلات موسيقية كانت بين أيديهم جسرا للتواصل الإبداعي الخلاق.

عدنان فتح الله: الطلاب اختاروا أعمالا تشكيلية عالمية ثم حوّلوها إلى معزوفات
عدنان فتح الله: الطلاب اختاروا أعمالا تشكيلية عالمية ثم حوّلوها إلى معزوفات

من وحي الرسم

من اللوحات التي قدّمت في عرض التخرج لوحة “المأساة” للفنان الشهير بيكاسو التي تنتمي للمرحلة الزرقاء في الحياة الإبداعية للفنان الإسباني الشهير. وكان قد رسمها بعد انتحار صديقه الشاعر الفرنسي كارلوس كاسيجماس عام 1903، وهي تمثل ذروة الحالة المأساوية في حياته المهنية.

وتميّزت المرحلة بحضور اللون الأزرق وحضور الكآبة والحزن فيها، وكان للوحة بما تحمله من خصوصية لدى الناس من حيث موضوعها ومعرفتهم بالفنان الذي أبدعها حضور لافت  خلال الحفل.

أما اللوحة الثانية والأكثر شهرة التي حضرت في العرض، فكانت “ليلة مرصعة بالنجوم” للفنان الهولندي فينيست فان غوخ التي رسمها عام 1889 في مدينة سان ريمي دو بروفنس، وهي اللوحة الأكثر استنساخا في العالم والتي ألفت عنها العشرات من الدراسات، وفيها يقدّم فان غوخ عوالم سحرية متعلقة بطاقته على الحلم التي كان يؤمن بها، وهي اللوحة التي قال فيها “أنا لا أعرف أي شيء على وجه اليقين، لكن رؤية النجوم تجعلني أحلم”.

وقدّم الموسيقيون من خلال استحضار هاتين اللوحتين أقصى ما يمكن في سبيل نقل أحاسيس ورؤى الرسامين بيكاسو وفان غوخ،  فكانت أحاسيس المتلقي تنوس بين معاني التشكيل حينا والموسيقى حينا آخر بتضافر لافت.

وعن الحفل الذي استضافته دار أوبرا دمشق والأجواء التي أحاطت به في سبيل تحقيق شرطية فنية تتميّز بحس جمالي كبير، قال عدنان فتح الله عميد المعهد العالي للموسيقى بدمشق “ضمن منهاج مادة علم الجمال في المعهد العالي للموسيقى الذي تدرسه الأستاذة رهف شيخاني يتعرّف الطلاب على دورهم الهام كفنانين في تشكيل مجتمعهم. كذلك يبحثون بتعمّق بما يسهم في جعل الأعمال الفنية بكافة أشكالها أعمالا ذات قيمة فنية عالية، ممّا سيساعدهم في تطوير مهارات تحليل وبناء أدائهم كموسيقيين”.

ويوضّح “قام الطلاب باختيار أعمال فنية، تعمقوا فيها وبحثوا في قصتها أو قصة رسامها، ليقوموا بعد ذلك بنقل ما وصلهم من مشاعر وترجمتها بأفكار موسيقية تعبّر عنهم وعن اللوحة”.

وعن الأمسية قالت الموسيقية رهف “هي عبارة عن وسيلة إيضاح لموضوع أساسي، وهو طريقة التفكير بعمق للأشياء التي نود تقديمها في الحياة ضمن مساعي ربط التعليم بالمجتمع وتأكيد حالة التلاقح بين الأجناس الإبداعية”.

وكان مميزا ظهور آلة اللوت في عرض التخرّج التي قدّم عليها يزن الجاجة العازف العربي الوحيد على هذه الآلة معزوفات موسيقية خاصة، وتعتبر آلة اللوت موسيقية عربية الأصل وهي حفيدة لآلة العود الأصلية وتختلف عنها من حيث الدوزان ودرجة الصوت. وقد شاعت الآلة في أوروبا بشكل واضح في القرن السادس عشر وألّف لها بعض الموسيقيين مقطوعات خاصة كما فعل الإيطالي ريسبيغي.

وكان الجاجة قدّم منذ أشهر عرضا موسيقيا خاصا لها مصاحبا بالفرقة السيمفونية السورية بقيادة ميساك باغبودريان، قدّم فيه معزوفات ومتتاليات خاصة بهذه الآلة كانت موجودة في أوروبا سابقا.

علم الجمال

تناغم التشكيل والموسيقى

يتميّز طلاب المعهد العالي للموسيقى بكونهم معنيين بتشكيل معرفة خاصة بعلم الجمال، منطلقين من نظريات علم الجمال عبر تاريخه. فالفن في طيفه الأوسع يهدف لتحقيق رؤى عليا يستهدفها، فيقدّم حالات وتجليات تجعل الإنسان في مرتبة إنسانية أعلى تصيب عنده مكامن الروح والحس الأعمق.

وتقوم نظريات علم الجمال على ترجمة تلك الظواهر مستندة إلى فكر متعدّد المشارب، فبعض المشتغلين بفلسفة الجمال يرون أن الجمال يكون حيث التجانس الرياضي الذي يوفّر توافقات رياضية على درجة بالغة السمو من الدقة، وهذا ما يحمل منظرا جميلا للشكل المبدع، وهو ذات المذهب الذي تحدّث عنه أفلاطون الذي يرى أن تذوّق الجمال يأتي من خلال الظاهر الفني الذي يعبّر عن القيم العليا في المجتمع.

كما بيّن سقراط أن تحقيق القيم العليا في المجتمع يسلتزم وجود عنصر الجمال، الذي يقوم على وجود حالة الإشباع الروحي البعيد عن اللذة الحسية. وفي المعنى الديني الصوفي يرى أتباعه أن الجمال هو ما فوق الدنيوي، وهو حقيقة إلهية عليا له خصائص نورانية.

أما الفلاسفة المعاصرون فيرون في الجمال مكامن تتجلى فيها مساحات القلب على حساب العقل كما قال برغسون. وعربيا قال أبوحامد الغزالي “الجمال يكون حين تتغلب البصيرة الباطنة على الحواس الظاهرة”.

وانطلقت التجارب التعليمية الموسيقية في سوريا باكرا مع نضوج فكرة الوطنية السورية في بدايات القرن الماضي، حيث ظهرت العشرات من الأندية والمعاهد التي تعلم الموسيقى خاصة في مدينتي حلب ودمشق، منها النادي الموسيقي السوري الشرقي والنادي الموسيقي الفني ونادي نهضة الموسيقى ونادي دار الألحان والتمثيل ونادي الفارابي ومعهد الآداب والفنون ونادي الصنائع النفيسة ونادي الفنون الجميلة.

على أن المحاولة الأكاديمية الأوضح كانت في حلب عام 1946 عندما أسّس فؤاد رجائي آغا القلعة المعهد الموسيقي الشرقي ليتبعه معهد دمشق على يديْ الزعيم الوطني فخري البارودي بدمشق في العام التالي، ثم تتالت التجارب إلى أن وجد المعهد العالي للموسيقى بدمشق، وبات يخرج سنويا العديد من الطاقات الفنية الموهوبة.

ستة طلبة ومؤطّرتهم يستلهمون من اللوحات أرقى المعزوفات
ستة طلبة ومؤطّرتهم يستلهمون من اللوحات أرقى المعزوفات

 

16