اللبيب بـ"العين" يفهم

ترتبط كل حاسة من الحواس الخمس للإنسان بعضو من أعضاء الجسم، ولو وضع الإنسان أمام حتمية التنازل عن أي عضو أو حاسة، سيكون مستعدا للتنازل عن أي منها إلا الرؤية والعين، التي ارتبطت بمفاهيم ودلالات في المأثور والخيال العربي، فالعين تأسر العشاق وتلهم الشعراء، كما تنفر المتطيرين وتهدم الجمال.
يحكى أن كفيفا رزق لبرهة قصيرة بنعمة البصر فرأى فأرا، ثم ذهب عنه بصره، فصار يقدر ويقيم حجم أي شيء يحدثونه عنه بالفأر، فلو قالوا له فيلا، يرد عليهم: هل بحجم الفأر، ولو قالوا له زهرة، يرد المسكين: هل هي كالفأر.
هذه آلة الإدراك الأولى لدى الإنسان، فيها يتعامل مع عالمه، وبها يمارس حياته، ويرسم قيم الشر والخير الحسية والمعنوية، وفوق ذلك ظلت العين أحد تفاصيل السحر والجمال الذي يتغنى به الشعراء ويتعذب لها العشاق، وكم من عين تصدرت صاحبتها وحتى صاحبها القصائد الشعرية وأغاني الطرب العربي.
للعين زيادة على وظيفتها في نقل الصورة إلى صاحبها، دلالات ورسائل تتراوح بين الصقرية الحادة التي تملك القدرة على التركيز والكاريزما وتحديد الهدف، وبين المثيرة للعشق والهيام، وبين القارئة الفاهمة لملامح وشكل الصورة المقابلة، والحقيقة أن اللبيب بالعين يفهم وليس بالإشارة، فالعين تملك القدرة على فهم وقراءة المعاني والرسائل قبل الإشارة.
العين هي أول قناة لنقل الرسائل، فقد كان يستعملها الأجداد والآباء في توجيه أبنائهم وأحفادهم إلى خط تربوي معين وسط الجموع، فحينما تصبح الكلمة غير متاحة يكتفي هؤلاء بتوجيه نظرة تحمل كل شيء لصاحبها، وهذه خصلة ليست متوفرة للجميع، بل تقتصر على من يملكون قدرة على الإلقاء والتلقي بلغة العيون الصامتة.
لكن هذا العضو الحساس، ليس كله آلة تواصلية أو طاقة إيجابية، فكثيرا ما تتحدث المجموعات البشرية في عالمنا العربي، عن عين السوء، القادرة على تدمير أي شيء، قياسا بما تملكه من قوة شريرة مدمرة، ولذلك ارتبطت بأشخاص يحملون في ذواتهم الشر للآخرين.
المجال لا يسمح بسرد المقاربة العلمية المتداولة في تفسير ظاهرة العين الشريرة، لكن المثير للانتباه أن الشخصية العربية والبنية النفسية والذهنية الضعيفة المستندة على موروثات الشعوذة والخرافات، حولت فشل أو أخطاء أصحابها في الحياة إلى مفعول ذلك العضو في إلحاق الشر بالآخرين.
في كثير من البلدات والقرى بالجزائر، تصادفك أحيانا بنايات وعقارات وفلل، لكنها غير مكتملة الوجه الخارجي، والسبب ليس لأن صاحبها بصدد جمع المال أو البحث عن الحرفيين المختصين، وإنما هو حمايتها من “العين”، فهو في نظره لو أتمّ البناء سيزداد جمالا وبروزا، وبذلك سيصبح عرضة للعين.
وأحيانا بدل أن يصادفك نبات أو شجر أخضر يزين العقار أو المكان، تلاحظ ورقة صبار أو تينا شوكيا أو عجلة مستعملة منصبة على السطح، لتحصينه من العين أيضا في نظر صاحبه، المهووس بنظرية العين الشريرة، القريبة من نظرية المؤامرة التي يتداولها الساسة في بعض الأنظمة الحاكمة.
أحد الأئمة يروي بأنه قضى 25 عاما في أحد المساجد بمدينة أميركية، ولم يأته في يوم من الأيام شخص يطلب منه رقيته، ويقول “لما عدت إلى البلد وجدت الناس تائهة وراء الرقية والرقاة”، ولأن الأمر هذا من ذاك، فإن أعلى الأبراج والعقارات والشركات والسيارات هناك لم تصبها أي عين شريرة، لأن المسألة قائمة على العلم والعقل.
يواصل الإمام “زوجوه، شغلوه، سكنوه، أعطوه حياة كريمة ينسى الشعوذة والخرافات”، وكذلك حصنوه بالعلم والعقل ينسى العين الشريرة وينتبه إلى حقيقة الحياة.