"اللبلابي العظيم"

البحث عن دفء آخر خارج دائرة اللبلابي والشراب الأحمر في تونس يعدّ ضربا من الحماقة، رافعين شعار "تمسكوا بعزوبيتكم فإن البرد لا يدوم".
الثلاثاء 2023/12/19
البحث عن الدفء

"اللبلابي" أكلة شتوية شعبية تونسية بامتياز. يعشقها ويدمن عليها أيام البرد، الغني والفقير، الصغير والكبير، وكل من سكن إلى تونس من “عرب وعجم وبربر، ومن عاصرها من ذوي السلطان الأكبر” على حد قول ابنها عبدالرحمن بن خلدون، الملقب بـ”رحومة ولد الحومة”، وفق ألقاب التودد والتصغير والتحبب على الطريقة التونسية.

ولولا بعض الحياء لتخيلت تمثال ابن خلدون الواقف وسط العاصمة، يمسك بـ”صحفة لبلابي” بين يديه، بدل مقدمته الشهيرة، وقد فتت فيها الخبز البائت، وينتظر ملءها بالمرق عند “ولد حنيفة”، أشهر وأقدم مطعم لبلابي في مدينة تونس القديمة أو حتى جاري “بدرة” في حي باب الخضراء العريق.

إذا حل الشتاء واستوطن البرد مدينتنا الشرهة، فعرج نحو أحد محلات اللبلابي التي تتكاثر وسط الشوارع وبين الأزقة مثل الوشايات والإشاعات، وبعضها كان دور نشر وطباعة ومكتبات.

ما عليك إلا أن تقف في الطابور، تمسك بزبدية من الفخار، تفتت فيها قطعا من الخبز البائت المتوفر لدى البائع، تمد بها إليه فيسكب فيها من طنجرته العملاقة حساءً من الحمص المغلي والكمون والثوم وبعض الفلفل الأسود والليمون، بالإضافة إلى بيضة ساخنة غير مسلوقة، تخلط المحتوى مع الكثير من هريسة الفلفل الحار وزيت الزيتون البلدي ثم تأكل هنيئا مريئا دون أن تنسى الترحم على أرواح كل من اخترعوا وطوروا اللبلابي من رجال تونس البررة عبر العصور.

الحقيقة أن اللبلابي لم يشهد تطويرات جوهرية في مكوناته منذ أن دب البرد القارس في عروق التونسيين، إلا أن بعض حديثي النعمة أرادوا التميز عبر إضافة بعض المكونات كالتونة والكبّار ففشلوا وظل أحفاد ابن خلدون يأكلون اللبلابي على أصوله وهم “يوحوحون وينفنفون” في صباحات تونس الباردة.

ولأن الدين النصيحة، فإن التونسي ينصح أخاه التونسي في أيام البرد والزكام بـ”صحفة لبلابي حارة” ثم زجاجة من الشراب الأحمر، خاتما نصيحته بعبارة “وتفكّرني” أي تذكرني.. عموما، ثمة غالبية في تونس تنصح بعضها بالزجاجات الحمراء في الشتاء، والباردة الخضراء في الصيف، وباقي فصول السنة.

الغريب أن اللبلابي لا يستقيم إعداده في البيت، ولا يطيب تناوله إلا في المحلات الشعبية العامة. إنه يكاد يكون الرمزية الوحيدة لإمكانية تفوق الفقراء على الأغنياء.

المحظوظ في تونس من يمتلك محل لبلابي وكسب شهرة من خلال نكهة خاصة وسرية، والمحظوظة هي من تتزوجه في عصر عزوف عن الزواج تشهده البلاد التي تمنع قوانينها تعدد الزوجات من أساسه.

وبناءً على ما تقدم فإن البحث عن دفء آخر خارج دائرة اللبلابي والشراب الأحمر في تونس يعدّ ضربا من الحماقة، رافعين شعار “تمسكوا بعزوبيتكم فإن البرد لا يدوم”.

18