اللاز زعيم "البطحة" يكشف ما وراء المدن من تصدع وغياب للدولة

الأمر لا يتعلق بالممثل نبيل عسلي الذي نجح إلى أبعد الحدود في تقمص شخصية “اللاز”، ولا بالمخرج وليد بوشباح، الذي أخرج بذكاء كل ما يريده من الممثل المذكور لأداء دور “اللاز” في مسلسل “البطحة”، وإنما بشخصية “اللاز” نفسها، ولذلك تكون هذه المرة هي الأولى التي نسرد فيها ضمن صفحة “وجوه” تفاصيل شخصية افتراضية موجودة وتسكن في كل ضاحية من ضواحي الجزائر المهمشة، وهي شخصية تدفع بها الكاريزما والتكوين والظروف المحيطة إلى الواجهة، فتستقطب الاهتمام والأضواء وتقدم لها فروض الطاعة والولاء لشغل منصب الزعامة الاجتماعية بمختلف تجلياتها السوسيولوجية والثقافية.
المعروف في لعبة الورق الإسبانية، ورقة “اللاز”، التي تحمل رقم واحد الذي يلتهم كل الأوراق، أنها تمثل تشكيلا مقرفا إلى حد ما، ولذلك ارتبط شكل ورسم أي شخص غير محظوظ في الوسامة بحمل كنية “اللاز” كنوع من التنمر الذي يشكل جزءا من حياة الأحياء الشعبية الجزائرية.
يبدو أن المخرج وليد بوشباح، لما أراد معالجة قضية الضواحي الشعبية المهمشة، ألم بكل تفاصيل المشهد الاجتماعي والثقافي واللغوي لتلك الفضاءات التي تعيش على الهامش. وكما اختار ديكورا طبيعيا أقرب إلى المسرح منه إلى الدراما، اختار شخصياته بعناية فائقة، وعلى رأسها شخصية “اللاز” التي أداها الممثل نبيل عسلي باقتدار كبير.
ملامسة الجرح
مسلسل “البطحة” ليس مجرد عمل درامي دخل المنافسة الرمضانية في الجزائر للعام الثاني، وإنما هو قراءة سوسيولوجية عميقة لبنية وتركيبة مجتمع الضواحي، الذي يعيش يومياته بين الفقر والتهميش والعفوية، ولو توفر له هامش معتبر من الحرية الإبداعية لتحول إلى عمل ضخم، لأنه لامس الجرح ولم يشأ نكأه، واكتفى بتعرية المتاح فقط.
الأمر لا يتعلق بشخوص وأبطال مسلسل “البطحة”، وإنما بشخصية “اللاز” نفسها، فلكل ضاحية مهمشة ولكل حي شعبي “لازه”، أو زعيمه الذي يدير ويتحكم في مجريات الحياة اليومية، فتحت أوامره تنفذ الاعتداءات وأعمال العنف والسرقة والسطو، ولا تسري أي فكرة أو مشروع إلا بمشورته ورأيه، فهو الآمر الناهي في الضاحية.
◙ "اللاز" شخصية مركبة تجمع بين الخير والشر والجريمة ومساعدة الآخرين وقد باتت منتشرة في المناطق الجزائرية المهمشة
“اللاز” هو شاب انقطع عن التعليم، متردد على المحاكم والسجون بسبب ضلوعه المتكرر في أعمال إجرامية، ومع ذلك فهو فخور بتجربته مع مؤسسات إعادة التأهيل والتربية أمام أقرانه وخصومه، ومستعد للمزيد لأنه يعتقد أنه على صواب.
وهذا الإفراز هو إدانة صريحة للمجتمع وللمؤسسات الرسمية والأهلية، الفاشلة في احتواء حقيقي لأبنائها، وتحويل أخطائهم إلى محطات للإصلاح والانخراط الإيجابي في المجتمع، لأن العقاب سيكون عديم الجدوى إذا كرر نفسه، بل يؤشر على خلل عميق في مهمة ودور المجتمع.
و"اللاز" الشاب العنيف و"غاوي المشاكل"، هو نتيجة طبيعية لظروف اليتم والفقر والتهميش في ضاحية “البطحة”، والبطحة هي واحدة من آلاف الضواحي الجزائرية المهمشة، والتي اختارت لها السلطة تسمية “مناطق الظل” وأحصتها في حدود الـ15 ألف منطقة.
ومناطق الظل التي اعترفت بها السلطة وخصصت لها أغلفة مالية للنهوض بالحياة الاجتماعية والخدماتية فيها، تمثل الوجه الآخر للجزائر إلى جانب الأحياء الشعبية، والأكيد أنه في كل منطقة “لاز” أو زعيم تدفع به التركيبة الاجتماعية إلى الواجهة وتحيطه بهالة من قصص الشجاعة والرجولة ترهب أقرانه وسكان الضاحية عموما.
وفي كل مرة تتحدث التقارير الأمنية والإعلامية عن حروب شوارع وأحياء في بعض المدن، أبطالها شباب ومراهقون ويقودها “لازات”، والسبب هو خلافات بسيطة أو حميّة آلية مع ابن الضاحية، منتجة بذلك عنفا وإجراما تغذيا بانغلاق على الذات وعدم القدرة على التعايش مع الآخر، بسبب إهمال هؤلاء وعدم مساعدة المجتمع لهم على تجاوز حدود التمييز والفوارق في تركيبة المدينة الجزائرية.
زعامات الضواحي المهمشة
يجسد المخرج وليد بوشباح المشاكسات والمواجهات المتكررة، التي قادها “اللاز” ضد خصمه “بونار” في ضاحية البطحة، فكثيرا ما كان الخلاف حول المصالح البسيطة سببا لأعمال عنف جماعية بين أنصار التجمعين، سرعان ما تنتهي بتدخل رجال الأمن كوصفة علاجية أمنية، بينما لم يظهر للمؤسسات المدنية والأهلية حضور في حل مشاكل الضاحية.
وفي الغالب لا تكون الضواحي المهمشة إلا وعاء انتخابيا يقصده الطامحون لشغل كراسي السلطة، من أجل كسب أصوات سكان هذه الضواحي مقابل وعود جوفاء وأكاذيب تثبت مع الأيام، وعادة ما يكون “اللاز” هو مفتاح هؤلاء باعتباره صاحب كلمة لا ترد وصوت محترم في ضاحيته، ولذلك يجري استغلال زعامات الضواحي في حملات الدعاية مقابل فتات أو مصالح بسيطة.
إذا ثبت أن “اللازات” هم مجرمون بتوصيف القانون، فهم ضحايا بروح القانون، لأن المجتمع لم يكلف نفسه عناء إخراج البذرة الطيبة منهم، وتركهم لظروف العزلة والإقصاء والتهميش، وكم ظهر “لاز” البطحة في ثوب الإنسان الطيب الكريم، المؤثر على نفسه، المتعاطف مع الفقراء والمظلومين والمدافع الأول عن ضاحيته.
ورغم حظه العاثر في ربط علاقات عاطفية واجتماعية مع أفراد من طبقات المجتمع المخملي، فإن قلبه ظل محافظا على طيبته، ولم ينقم على الظروف التي حالت دون أن يكون صديقا لماجدة ابنة رجل الأعمال، ولا لرجل الأعمال نفسه الذي ساعده في المصحة لما كان وحيدا.
وسرعان ما كان يعود إلى ضاحيته وإلى أصدقائه وحتى إلى خصومه، للاستمرار في حياة الهامش وفي منصب الزعامة، وهو قدر ساهمت في صناعته تراكمات سياسية واجتماعية عملت على غلق الضواحي، رغم ما للنهج من خطر تحويلها إلى قنابل مدمرة.
وعادة ما كان الاهتمام منصبا على الضواحي الراقية وعلى الواجهات، بينما يتم إهمال ما وراء ذلك، فليس غريبا أن تجد حيا في ضواحي العاصمة وكأنه قطعة من العهد الغابر، بينما الأضواء والزينة لا تنقطعان عن الواجهة والأحياء الراقية، وهو ما صنع من المدينة الواحدة مدنا، ومن المجتمع الواحد مجتمعات، وأنماطا معيشية مختلفة ومتضاربة، وفيها برز “اللاز” كظاهرة اجتماعية معقدة قبل أن تكون شخصا عاديا.
لعل ما تعاب عليه المؤسسات المختصة والمجتمع عموما هو تجاهلها لذلك الزخم الاجتماعي، فهناك يترك الناس للناس ولموازين أخرى، بعيدا عن آليات المتابعة والعلاج، فتبرز نماذج “اللاز” كقوة طبيعية لإدارة شؤون المجتمع الصغير وفق قوانين تفرضها شخصية الزعيم.
والأمر لا يقتصر على المجتمع الجزائري، فكل المجتمعات معرضة لمثل هذه الإفرازات، فحتى فرنسا القوة السياسية والاقتصادية العالمية لم تسلم من هذه الظاهرة، فقد أكلت ثورة الضواحي منذ عدة أشهر باريس والعديد من المدن، فهناك بعض القواسم والروابط المشتركة التي أنتجت ظاهرة “اللاز” كزعيم اجتماعي بإمكانه تحريك الشارع وتهديد الأمن العام.
في مسلسل “البطحة” لم يشأ المخرج وليد بوشباح وشركة الإنتاج التعمق أكثر في الظاهرة، حيث تم عرض “اللاز” في ثوب الزعيم العفوي والبسيط وخفيف الروح، دون التطرق إلى التحولات الكبيرة والخطيرة التي تنتجها الحواضن الاجتماعية المهمشة، خاصة ما تعلق منها بالتطرف والأفكار الراديكالية التي أفرزت قنابل مدمرة في زمن سابق.
وإنْ عدنا بالزمن إلى الوراء مدة وجيزة نجد أن منظري الإسلام السياسي، في جبهة الإنقاذ المحظورة، عملوا على استغلال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها الضواحي والأحياء المهمشة، من أجل تجنيد وتعبئة أفرادها وزعاماتها، وكثيرا ما ظهر “لاز” الحارة زعيما في صفوف الجماعات المسلحة في الجبال والغابات، بعدما تغذى جيدا بأفكار التطرف.
قنبلة اجتماعية
الرسالة الدرامية في مسلسل “البطحة” كانت ناعمة وخفيفة، لكنها أثارت إشكالية اجتماعية وسياسية تهدد الاستقرار وتعمق الفوارق والعزلة وتغذي العنف، وهو ما يدعو المختصين إلى وقفة جدية، فالظروف السلبية التي تصنع “لازات” الضواحي المهمشة يمكن أن تتحول إلى ظروف إيجابية وتصنع رافدا من روافد النخبة، بدل أن يكون هؤلاء صيدا سهلا لمقتنصي الفرص والمواسم.
لو أجريت عمليات سبر آراء متخصصة لكانت شخصية “اللاز” الأكثر انتشارا وشهرة في العامين الأخيرين، ولولا العتب الاجتماعي والموروث الثقافي لحمل مواليد جدد اسم “اللاز” تيمنا به، كما حمل العديد منهم اسم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وفي كلتا الحالتين كانت الزعامة حافزا أو مؤثرا في مخيال تلك العائلات، من أجل نقل ولو الاسم فقط من تلك الشخصية إلى ابن من أبنائها بعثت به الأقدار في ذلك الحيز الزمني.
◙ "اللازات" مجرمون بتوصيف القانون لكنهم ضحايا بروح القانون، لأن المجتمع لم يكلف نفسه عناء إخراج البذرة الطيبة منهم
الكاريزما والقدرة على التأثير وكسب مشاعر الناس، قبل أن تكون علما إنسانيا محل بحث وإثراء هي أيضا قدرات ذاتية وظروف معينة تصقل صاحبها. وفي حالة “اللاز”، الذي بات محل شهرة وإعجاب الشباب والمراهقين في ربوع الجزائر، فإن الشخصية كامنة في أعماق الكثير أو مجسدة لدى البعض، وما قام به العمل الدرامي هو إخراج تلك العصارة التي حاكت وأخرجت هذه الشخصية إلى الرأي العام الجزائري.
للضواحي والأحياء الشعبية في كل مكان مذاق ومكانة خاصة في مخيال السكان بمختلف طبقاتهم وتركيباتهم، ولذلك عندما يحسن استغلالها تتحول إلى معالم وتاريخ يعبق بالحنين، لما أفرزته على مر العصور من تراكمات اجتماعية وثقافية وعادات وتقاليد وخصوصيات، لكن عندما تعامل بمنطق العبء الذي يستوجب التغافل عنه وتجاهله، تتحول إلى حواضن لمختلف المظاهر السلبية.
"البطحة” الدرامية أخرجت الشخوص الكامنة إلى العلن، بداية من “ربيعة” و”برنو” و”بونار” وغيرهم، الذين اقتسموا الفقر والتهميش والجهل في ضاحيتهم، ومن تلك الظروف قفز “اللاز” الذي جمع بين الطيبة والشر إلى الواجهة ليكون زعيما لممارسات العنف والإجرام وحتى الأعمال الخيرية، وهي زعامة على التسليم بحقيقتها، فإنها تترجم الوجه المخفي من المدن والحواضر الجزائرية.
كان بإمكان "اللاز" أن يكون شخصية أخرى أو فردا من النخبة، لو تم الالتفات مبكرا إلى الفوارق الاجتماعية المتفاقمة وإلى وضع ما تسميه السلطة بـ"مناطق الظل"، ولو تم التكفل بهذا الرجل وأمثاله، وبهذه الضاحية وبمثيلاتها، لما أنتجت هذه الزعامات التي تغذت بمحفزات الإجرام والانحراف والتطرف في مثل هذه الحواضن.