اللاانتماء محرك المبدعين والمختلفين

إن المتأمل في سير المبدعين من علماء وكتاب وفنانين ومفكرين، وخاصة أولئك الذين يخلدهم التاريخ كمختلفين لا يوجد الكون مثيلا لهم، قد يدرك حقيقة ماهية الشعور باللاانتماء الذي رافقهم جميعا.
هذا الشعور يكاد يكون المحفز الأول للإنسان نحو الاختلاف. قد نتساءل مثلا ما الذي جعل نيتشه الذي عاش ومات بين عامي 1844 و1900، يكون هو نيتشه الذي نعرفه اليوم، الفيلسوف العدمي الغارق في قانونه المثالي، المتمسك بكل فلسفته وكتاباته التي حطمت أصناما فكرية كثيرة؟ أو ما الذي جعل فرويد أحد أعظم علماء النفس؟ أو حتى ما الذي جعل أم كلثوم أهم “المصلحين” في الأغنية العربية رغم أنها وجدت في فترة انحلال فني كبيرة؟
لا داعي لنبتعد كثيرا، فمحمد مثلا، نبي الأمة الإسلامية، قد يكون خير نموذج للشعور باللاانتماء، فحين اشتد به الشعور بالاختلاف والرفض لمبادئ أمته وقيمها، انعزل واعتزلهم، ليفكر فيهم وفي دنياهم من عل، ثم يعود إليهم محطما أصنامهم جميعها وواضعا لهم منهجا حياتيا جديدا.
اللاانتماء، شعور يرافق الكثيرين دون أن يفهموه، دون حتى أن يدركوا أنه يدعوهم إلى التغيير ولن يفارقهم حتى يكسروا سلاسل التبعية لمحيطهم. قد يكون الواحد منا منتميا إلى مجتمعه، يمارس سلوكياته نفسها، يتبنى عاداته وتقاليده، لكنه دائم الإحساس بأنه ليس حقيقيا، غريبا، لا يرتاح في أن يكون مثلهم، يتبنى كل شعاراتهم ويكون نسخة مكررة عنهم، تأتي إلى العالم وترحل عنه دون بصمة تذكر.
إن مشكلة اللامنتمي ليست جديدة، فقد لازمت الإنسان منذ وجد، والتاريخ يزخر بقصص “المتمردين” على الانتماء الأعمى للقطيع البشري، لكن لم يتكلم عنه أحد، ولم يكتب عنه أي مفكر، حتى جاء كتاب “اللامنتمي” للبريطاني كولن ولسون في العام 1956، ليتتبع آثار اللامنتمين في الأدب الغربي، ويضرب أمثلة لا تزال تجعل من الكتاب مرجعا نفسيا عميقا، رغم أن مؤلفه حين كتبه لم يكن قد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره.
لا يزال الكتاب يثير مناقشات مرجعُها إلى أنّه يعالج هواجس الإنسان اللامنتمي، ذاك الذي “لا ينتمي إلى حزب أو عقيدة، ويجرّر ظلّه العملاق في طريقه المظلمة، مستسلما حينا ومتمرّدا حينا آخر”. إنه أيضا ينظر إلى الإنسان اللامنتمي في ضوء سلوكياته وحتى جرائمه وأفعاله الجنونية، ويعيدها إلى أصل شعوره، مؤكدا أن عدم فهم الشعور وتوجيهه في اتجاهه المناسب قد يؤدي باللامنتمي إلى أن يجد نفسه مجرما.
ولسون يقدم لنا دراسة واسعة لشخصية اللامنتمي كما تتجلّى في آثار كبار الكتّاب والفنانين، فيحلّل آثار كافكا ودستويفسكي وهمنغواي وكامو وسارتر ونيتشه وفان كوخ ولورنس وهنري باربوس وسواهم تحليلا يسلط الضوء على روائع هؤلاء الكتاب والفنانين، وعلى اللامنتمي الساكن والمتمرد بين مؤلفاتهم. وكم نحن في حاجة إلى كتاب يتتبع اللاانتماء عند مبدعينا العرب.
مختصر حديثنا، أن هذا الشعور الغريب الذي يقلق أرواح بعضنا، ولا يزال البعض الآخر غير مدرك لماهيته، وربما لا تشعر به الأغلبية، هو شعور طبيعي، قد يحوّل حياتنا إلى سلسلة كوابيس لا تنتهي، فكلما شعر المرء بالانتماء، باغته اللاانتماء من اتجاهات أخرى، وكلما قدم وتقدم في الحياة شعر أنه لم يفعل شيئا يذكر، إنه دائم البحث عن المعنى، عن الفعل وعن الوجود الذي يؤسس به لانتمائه الخاص.
“شقاء اللامنتمي إذن هو شقاء الأنبياء، إنه ينسحب من غرفته كالعنكبوت في الزوايا المظلمة، ويعيش وحيدا، راغبا عن الناس”.
عش شقاءك واستمتع به، ولا تتخل عن لا انتمائك واتخذه وقودا لروحك، محفزا لشغفك وانظر إلى نفسك بعين الممتن فلولا هذا “اللاانتماء” المزمن، لأمنت وسكنت وتجمدت روحك في مكانها.
وكما يقول ولسون “إنني موقن أنّ اللامنتمي إذا تعلّم ليعرف نفسه، وشدّ العزم ليسطُره على حياته بدلا من أنْ ينجرف وراءها لانتهى رائدا في سُلّم الحضارة بدلا من أن يكون رافضا له”.