الكويت ضحية اختلالات بها من نفسها

تخلص أمير الكويت من صداع اسمه الحكومة ومجلس الأمة، ولكن لا تزال الكويت بحاجة إلى ما هو أكثر من حبة أسبرين. فقد منح الأمير الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح تفويضا لولي عهده الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح في تعيين رئيس الحكومة والوزراء وقبول استقالاتهم وإعفائهم من مناصبهم، لينأى بنفسه عن الخصومات التي لا طائل من ورائها إلا “وجع الراس”.
ووجع الراس لا يقتصر على ما يحدث من ضجيج دائم في “مجلس الأمة”، ولكنه يمتد إلى ضجيج آخر بين شقين أو أكثر داخل الأسرة الحاكمة، حول مَنْ يمكن تكليفه برئاسة الحكومة، وما إذا كان يمكن التوصل إلى صيغة ما من صيغ التداول. فطالما أن معدل عمر الحكومة الواحدة في الكويت لا يتجاوز سنة ونصف السنة، فإنه يكفي لإتاحة الفرصة لكل الرؤوس الحامية التي تريد أن تجرّب حظها بالمنصب، أو غيره من الوزارات الأثيرة.
وتواجه الكويت ثلاثة اختلالات بنيوية على الأقل. هي في الواقع سبب الصداع الدائم، ومصدر عدم استقرارها النفسي ومشاداتها الداخلية الحادة.
الأول، هو أن “الأمة” لا تتصرف حيال بعضها كـ”أمة”. يكفي أن ينظر المرء إلى أوضاع المواطنين “البدون” ليدرك أن هذه “الأمة” أقصر قامة من باقي الأمم التي تقوم على المساواة بين مواطنيها، وهي تحرمهم من أدنى الحقوق الإنسانية تحت وطأة الشعور بأن دمها “الأزرق” سوف يصبح أحمر إذا انتمى إليها نحو 120 ألف شخص، ولدوا وعاشوا عمرهم كله على أرض هذا البلد. بينما يتاح للكويتي الذي يقيم في أي بلد أوروبي لخمس سنوات أن يحمل جنسية ذاك البلد، من دون أن يشعر مواطنوه الأصليون بأن دمهم صار أخضر. والسبب يعود حصرا إلى أن الأمم الناضجة ومكتملة المشاعر تظل قادرة على استيعاب “الآخر” ودمجه و”إعادة تأهيله” وإخراجه من جاهليته الأولى لكي يتعلم كيف يقف بالدور، وكيف لا يتجاوز إشارة المرور عندما تصبح حمراء، وكيف أنه يستطيع أن ينتقد رئيس الوزراء ويتظاهر ضده ويعود إلى منزله آمنا.
أصل العلة هو أن الكويتيين، الذين بارك الله من حولهم، يتصرفون كنوع من عُصبة صغيرة وقعت على كنز، ولا تريد أن تتقاسمه مع أي أحد. هذا هو الأصل. وسببه هو أن هذه العصبة ليست كباقي الأمم، فهي عثرت على الثروة ولم تنتجها. ما وضعها تحت طائلة الشعور بأن ما قد يأخذه “الآخر”، إنما يُنقص “الخزنة”.
الشعوب العاملة، والتي تنتج مقومات حياتها لا تملك شعورا بامتلاك خزنة. إنها تعيش وتعمل تحت شعور يجعل كل مواطن إضافة حيوية للخزنة. ألمانيا التي استوعبت في فجأة من الزمن نحو مليون ونصف المليون مهاجر، نظرت إليهم كقوة عاملة، وكدافعي ضرائب، وإلى أن جيلا آخر من أبنائهم سوف يسدد النقص في ميزانيات التقاعد لكل باقي الأمة.
شعب عاطل عن العمل تقريبا، ويعيش على ما تحتويه الخزنة، لا بد وأن يشعر بالقلق عندما يجد نفسه أمام 120 ألف شخص يريدون أن يتمتعوا بامتيازات البطالة المقنعة. وهذا هو مصدر الخلل البنيوي الثاني.
اقتصاد الكويت قائم على مورد واحد. وهو مورد تتناقص عوائده. بل إنه سائر في النهاية إلى التآكل والانقراض في غضون عمر جيل واحد. يعني، خمسين عاما أخرى وتنتهي القصة. العصبة تستجمع ذلك الهزيل والنافل من “القروش” في صندوق سيادي لـ”الأجيال” القادمة. ولا تريد شركاء معها.
عندما تعامل بلدك على أنه برميل نفط، فمن الطبيعي أن تجد نفسك عاجزا حتى عن زراعة شجرة فيه. الكويت تتصحّر، ليس لأن الطبيعة فيها هي التي تزداد قسوة، بل لأن الكويتيين هم الذين يقسون عليها بتعاملهم مع وطنهم على أنه برميل نفط، ينتظرونه حتى ينضب.
هناك امرأة كويتية واحدة قررت أن تزرع بضع أشجار، فتحولت صورتها وهي تجلس تحت ظلالها إلى قصة، وكأن الأمر معجزة.
أفهل تعجز الكويت بما تملك من موارد عن تشجير البلاد كلها، وتحويلها إلى جنة خضراء؟
إنها لا تعجز، ولكن شعبها يتصرف معها وكأنه يخطط للهجرة. فلماذا يزرع؟ ومن أجل مَنْ؟
انتظار النفط حتى ينضب، هو الذي يجعل الكويتيين يزدادون انفعالا ضد بعضهم البعض، حتى أنهم لدى مناقشة الميزانية في برلمانهم مطلع العام الحالي، تناحروا وتضاربوا ونزع أحدهم عقاله على الآخر.
ما هو غير طبيعي في هذا الوضع هو أن الكويت، بجاهلية زائدة، لم تتمكن من أن تتحول إلى هونغ كونغ ولا سنغافورة ولم تقدم مثالا لشعب ينتج ويبدع ويتطور ويبني مصادر أخرى للثروة. لقد امتلكت ثروة، وكانت تعرف أنها ناضبة، وبدلا من أن تسعى لتطوير بدائل، فقد أغرقت نفسها بالتنازع عليها، أو على مكافحة الفساد فيها. عشيرة تناطح أخرى، حتى يكاد المرء ليعجز عن معرفة من أين جاء ذلك الشعور بأن دمها أزرق، حيال مواطنين آخرين، وحيال كل غريب.

ثم إن فكرة التعويل على استثمارات “الصندوق السيادي” هي نفسها فكرة عاطلين عن العمل. إنها استثمارات في عمل آخرين! بينما نحن نتفرج. شعب من حملة الأسهم، ليسوا شعبا مكتمل المعايير، لأنهم حينها سوف ينظرون إلى وطنهم على أنه “بورصة”. (بورصة الكويت، بالمناسبة، واحدة من أقدم بورصات المنطقة، لأنها نشأت لكي تتوافق مع عقلية الاستثمار في عمل الآخرين، لأجل البقاء عاطلين عن العمل). الكويتي على وجه الإجمال، ينظر إلى العمل، اليدوي منه خاصة، على أنه شيء مهين أصلا. وهو يحتقر حتى الذين يقومون به بدلا عنه. شيء عجيب فعلا.
الصناديق السيادية إذا كانت مفيدة لشعوب أخرى، فلأنها استثمار لفائض العمل! وليست استثمارا لفائض البطالة. كما لأنها انعكاس لواقع عمل، وامتداد له. بقول أوضح: نستثمر في شركة صناعة سيارات، لأننا ننتج براغيها على الأقل.
هذان الخللان البنيويان ما كان لهما أن يمرا من دون انعكاسات سياسية. منذ خمسة عقود على الأقل، حاولت “الأمة” في الكويت أن تُنفّس عن اضطراباتها، فوجدت نفسها أمام مشاريع سياسية مستوردة، لعلها تجد فيها تفسيرا لبعض وجوه الخلل، أو لتبحث من خلالها عن مخرج، ولكنها سرعان ما أصبحت مأزقا أورثها التوتر والتناحر والإرهاب.
انتخاباتُ مجلس الأمة في ديسمبر الماضي كشفت عن ظاهرتين. الأولى، صعودُ نواب جدد، 31 من أصل 50. في دلالة على انقطاع الاستمرارية، وارتفاع نزعات المواجهات العنيفة. والثانية، غياب الوجوه النسائية. المتنافساتُ كنّ 28 امرأة من بين 326 مرشحا. ففاز الرجالُ، ليكونوا قوّامينَ عليهنّ وعلى البرلمان.
فتهشمت القوارير ولم يُرفق بأي منهن. ولو حدث أن طالب أحدُ الحداثيين تخصيص نسبة للنساء، ولو على سبيل الوجاهة، فلربما كان من أول الخاسرين. ذلك لأن الغالب في البرلمانات الكويتية، هو المواجهاتُ الساخنةُ لا الوجاهات.
لا جماعة الإخوان، ولا جماعات الولي الفقيه، يمكنها الزعم بأنها تعكس شيئا من طبيعة الكويت أو هويتها الوطنية. إلا أنها ظهرت كنبت شيطاني، في وضع كانت اختلالاته هي نفسها تُطلعُ رؤوس الشياطين.
الديمقراطية لم تحمل لهذا البلد إلا الاضطراب. ليس لعيب فيها، ولكن لعيب في قدرة البلد على التوافق مع معاييرها وقيمها. فمجلس الأمة الذي تأسس في العام 1963 عقد 18 دورة، ما جعل عمر الدورة الواحدة 3 سنوات. بينما عرفت البلاد منذ استقلالها في العام 1962 عددا من الحكومات لم تعرفه أعتى الدكتاتوريات، حتى بلغ 38 حكومة. ما جعل معدل عمر الحكومة الواحدة سنة ونصف السنة.
أما الفساد، فقد ظل هو القضية الأولى. وأما استجوابات رؤساء الحكومات على قضايا تتعلق بالفساد، فقد كانت هي السبب وراء ثلاثة أرباع الاستقالات. ومن حكومة إلى أخرى، ومن برلمان إلى آخر، لا الفساد توقف، ولا أمكنت محاربته، حتى أصبح جزءا من طبيعة الحياة: كلاهما قائم. وكلاهما يحتاج الآخر، لكي يقيم حكومة ولا يُقعدها.
لقد وضع مؤسسو الإمارة نواياهم الطيبة في دستور البلاد، إلا أنهم لو عادوا إلى الحياة لرأوا كيف أن النوايا لا تكفي لبلوغ الجنة.
تكليف ولي العهد بتولي مسؤولية إصدار المراسيم بتعيين رئيس الحكومة والوزراء، لا يبدو حلا للمشكلة، ولا حتى هربا منها. لأنها ليست مما يمكن حله بتناول حبة أسبرين.