"الكلمات" حكاية شاب محدود الموهبة يتحول إلى كاتب ناجح

رسالة الفيلم: بماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه.
الاثنين 2022/01/31
حقيبة غيرت حياة الكاتب الفاشل

مهنة الكتابة الأدبية ليست سهلة، إذ تتطلب الموهبة بدرجة أولى ومن ثم المثابرة والتضحية والقدرة على صقل الموهبة والتطور والاستلهام لتحقيق النجاح، وقد تناولت العديد من الأفلام ظاهرة الكتابة من زوايا مختلفة، ومن بينها فيلم “الكلمات” الذي يتجاوز كونه فيلما عن الكتابة وتجربتها والفشل فيها إلى كونه فيلما يرسخ القيم الأخلاقية للكتابة.

لو كنت قد شاهدت محتوى فيلم “الكلمات” (The words) قبل أن أعرف عنوانه، ثم طلب مني أن أجعل له عنوانا، لما وجدت أفضل من “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه”.

ينتصر الفيلم لفكرة أن الإنسان هو أهم الموجودات، وأن الإبداع الفني أو الكتابة الروائية حتى أكون أكثر تحديدا، هي وليدة المعاناة، وليدة التجربة الشعورية العميقة.

يقول هيغل “لم يتم أبدا تحقيق شيء عظيم في هذا العالم دون عاطفة”. كما أن هنري ميللر يرى في مؤلفه “الكتب في حياتي” أنه ينبغي على الكاتب أن يقرأ قليلا حتى يتفرغ للحياة والمغامرة باعتبارهما مصدر كل عمل إبداعي، ويعترف أنه قرأ كثيرا، لكنه كان عليه ألا يفعل ذلك، قائلا “لقد قرأت مئة مرة أكثر مما كان علي قراءته” ويستطرد “إنهم يعلمون فن الكتابة في أقسام المدارس وليس في قلب الحياة”، ويضيف “تعتبر الكتب جزءا من الحياة، مثلها مثل الأشجار والنجوم أو الروث”.

كاتب فاشل

الفيلم يحكي قصة كاتب شاب فشل في كتابة رواية جيدة فاضطر إلى انتحال مخطوط لشيخ مجهول

ولأجل تحقيق هدفه قرر أن يتوقف عن العمل سنتين، فكان يقضي سحابة نهاره متجولا حتى إذا جن عليه وعلى نيويورك وأهلها الليل وهجع السامر، قام يكتب، ولكن دون أن يحقق أي نتيجة تذكر، فلم تقبل أي دار نشر طبع عمله، وعلى الرغم من ذلك أبى أن يلقي سلاحه وأن يستسلم راضخا لحقيقة أنه لم يخلق للكتابة، رغم ضغط والده المحب والمشفق عليه، الذي ينفق عليه، والذي لم يجد بدا من أن يقول له يوما، في إشارة إلى محدودية موهبته “أن تكون رجلا يعني أيضا أن تعرف حجم قدراتك، مهما كان الألم الذي سيتولد عن ذلك”.

يتزوج من حبيبته ويسافران إلى باريس لقضاء شهر العسل، فتشتري له محفظة جلدية من دكان باريسي يبيع أشياء قديمة، وعندما يعودان إلى نيويورك، وفي أحد الصباحات يهم بوضع أوراقه في هذه المحفظة، فيقع على مخطوط رواية، يصعقه جمالها، تماما مثلما تصعقه حقيقة أنه لا يزال ينقصه الكثير ليكون روائيا.

 في غياب صاحب المخطوط، يقرر صاحبنا انتحال الرواية ونسبتها إليه، وهذه هي جريمته الكبرى. لقد أخطأ من قال “في الحب والحرب كل شيء مباح”. إن من أهم ما يجعلنا نحن البشر بشرا هو بعدنا الأخلاقي، وآية ذلك أننا نضحي في أكثر من موقف ببعدنا المادي لصالح كيانات اعتبارية، كالحرية، الكرامة، المساواة، الواجب…..إلخ، لأنه لا معنى لوجودنا في ظل غياب هذه القيم السامية.

 وبما أنني أناقش أحداث فيلم، فإن المجال يسمح لي بأن أشير إلى أعمال سينمائية مؤيدة ومنافحة عن وجهة نظري، مثل فيلم “لقد كنا جنودا” بطولة ميل غيبسون فلم يمنع العقيد الأميركي فقده لكل أفراد فرقته من أن يحرص على إرسال دفتر مذكرات الضابط الفيتنامي إلى زوجته، وأيضا فيلم “جسر الجواسيس” بطولة توم هنكس، المستلهم من قصة حقيقية، حيث يدافع المحامي الأميركي عن الجاسوس الذي كان يعمل لصالح الاتحاد السوفييتي بكل حرفية والحرب الباردة في أوجها.

نعود إلى فيلم الكلمات، يحقق الكاتب الشاب نجاحا باهرا وشهرة واسعة، إثر نشره الرواية، ولكن وهو يعيش أعلى درجات النشوة التي تمنحها الشهرة، يظهر في حياته صاحب المخطوطة، وهو شيخ منكود، قد أمعنت الحياة في التنكيل به، ولم يكتب سوى هذه الرواية إثر فقده لابنته وهي لا تزال رضيعة، فكانت هذه الرواية نتاج ما تفصد عن ذلك من معاناة نفسية كبيرة عاشها وزوجته التي أوشكت أن تنفصل عنه جراء هذه الواقعة الأليمة، عندما كان يعيش في باريس بعد الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها بصفته جنديا أميركيا، فنسيت زوجته الفرنسية الرواية التي كتبها في أحد القطارات، فكان هذا الحادث بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ذلك أنه أدى إلى انفصالهما، ويعلق الشيخ التعس على ذلك مخاطبا الكاتب الشاب (لقد كان خطئي أنني آثرت كلمات حمقاء، على المرأة التي ألهمتني كتابة هذه الكلمات). وهنا شاهد على أن الفنون والآداب وجدت لخدمة الإنسان وليس العكس.

درس قاس

الشاب حقق بالمخطوط الذي نسبه إلى نفسه نجاحا باهرا وشهرة واسعة حتى ظهر صاحبه الأصلي وتغيرت حياته جذريا

يمعن الشيخ في تقريع الكاتب الشاب، ويمعن هذا الأخير في استرضاء الشيخ محاولا التكفير عن ذنبه بكل الطرق الممكنة، إلى درجة أنه أبلغه عن عزمه على إخبار الناس عن الكاتب الحقيقي للرواية. ولكن الشيخ مصر على عدم قبول التوبة “لقد أخذت كلماتي، فخذ معها الألم أيضا”. وهذا ملمح نجده عند كثير من التعساء، فهم يجدون في الانتقام لذة لا تضاهيها أي لذة أخرى، فليس يرضيهم أن يكونوا سعداء بقدر ما يرضيهم الانتقام من العالم ومن الناس حتى ولو لم يكونوا هم سبب شقائهم.

ألا قاتل الله سوء الطالع حين يصيب المتميزين، سوء الطالع الذي يشير إليه الكاتب الشيخ حين يسأله الكاتب الشاب قائلا “لقد كان جون فونتي كاتبا كبيرا، غريب أنه لم ينل ما يستحق من التقدير!” فيجيبه الكاتب الشيخ “هذه هي الحياة”.

أرى أن الكاتب الشيخ كان موفقا جدا في إجابته، ولي في هذا الباب قول يحفظه عني كل من يعرفني، وقد صدرت به ديواني “وحدها الكلمات تفهمني”، وهو “لا يكفي أن تكون نبيا، أنت بحاجة إلى من يؤمن بك”.

همنغواي كذلك دندن حول هذه الفكرة في روايته “الشيخ والبحر”، ذلك أننا نجد “سانتياجو” رجلا جلدا، شجاعا، وصيادا ماهرا، هزم التونة العملاقة، قاتل أسماك القرش ببسالة، لكنه انهزم أمام قدره، وهكذا هي الأقدار لا تغالب. لم يكن سانتياجو يقاتل أسماك القرش على الحقيقة، وإنما كان يقاتل سوء طالعه. قاتله بحربته ففقدها، وبسكينه فسرقها منه سمك القرش، وبمجدافه فكسر. سانتياجو، لم ترهقه شيخوخته بقدر ما أرهقه سوء طالعه، فها هو يخاطب نفسه “إنك متعب من الداخل أيها الشيخ”.

أجل، إنه سوء الطالع الذي سماه بورخيس “طعام الأبطال العتيد”. يموت الشيخ وحيدا، ويودع قبره، فيأتي الشاب ويلقي بالمخطوط الذي كتبه الشيخ فوق التابوت، ليدفن معه، لكن تأنيب الضمير لم يمت بموت الشيخ، فوجه الشاب بعد بضع سنين سيكسوه قناع يفضح اضطرابه النفسي، بالرغم من أن تجربته مع الشيخ قد جعلت منه روائيا فذا، فقد حاك منها رواية رائعة، أسماها “الكلمات”، وعندما يقف ليقرأ فصولا منها أمام الجمهور، يحاول القضاء على عقدة النقص الموجودة بداخله، بقوله “الكلمات بقلمي أنا”، ليضحك الجمهور لقوله الغريب غير مدرك قصده.

بعد انتهائه من حفل توقيع روايته الجديدة، يصطحب معه إلى بيته صحافية شابة، فتهم به ويهم بها، لولا أنه تذكر زوجته التي انفصل عنها والتي كان يحبها كثيرا، فيمتنع عن مواقعة الصحافية، وتلوح في عينيه سيماء الجنون، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه.

13