الكرموس ليه مواليه

كنت متجهًا لشراء بضع ثمرات من التين عندما سألتني امرأة طاعنة في السن عن سعر الكرموس (التين، هكذا يُطلق عليه في تونس). قرأت السعر على بطاقة صغيرة معلقة أعلى كمية متواضعة من الكرموس وقلت لها ببراءة: "17 دينارًا (تونسي)". تنهدت المرأة وقالت وهي تنسحب كسيرة الخاطر: "الكرموس ليه مواليه"، أي أن للتين ناسه القادرين على شرائه.
وجدت نفسي أنسحب أنا الآخر بعيدًا عن الكرموس وأتجه لاختيار حبات من البطاطا والبصل، وأنا أحمد الله في سري أنها لم تشاهدني أهمّ لشراء ثمار التين.
يحدث هذا في بلد متوسطي يُفترض أنه بلد التين والزيتون والعنب وكل غلال الأرض. شعرت بالخجل مرتين؛ مرة لأنني أستطيع أن أشتري خمس حبات من التين، ومرة ثانية أن تسوء الأمور لدرجة تصبح معها ثمار طالما ارتبط اسمها بالبسطاء والفقراء حلمًا بالنسبة إلى شريحة واسعة من الناس.
لا أتحدث هنا عن فاكهة مستوردة مثل الأفوكادو والموز ولا عن حب الملوك (الكرز)، بل أتحدث عن التين الذي كان يُباع إلى وقت قريب بالسلة، ولهذا مدلولات اجتماعية واقتصادية خطيرة.
في الستينات وفي بلد متوسطي آخر هو سوريا، لم يكن الفلاح يكترث بقطف ثمار التين، فهو غالبًا لن يجد من يشتريها، وإن وجد فإن سعرها غير مجدٍ. كانت ثمار التين تُجفف وتُقدم علفًا للماشية.
ما يبدو اليوم ظاهرة عابرة، هو في حقيقة الأمر انعكاس لأزمة بل أزمات خطيرة في طريقها إلى التزايد. لو كان الأمر مقتصرًا على التين، لما استحق التوقف عنده. أيّ متجول في الأسواق سيلفت انتباهه انفضاض الناس عن قسم الأجبان وقسم اللحوم، وإن توقفوا فبأعداد قليلة جدًا.
عادات التسوق تبدلت بشكل ملحوظ، المتسوقون اليوم يشترون بالحبة؛ حبتان طماطم أو ثلاث، حبتان خيار أو جزر. ورغم أنني من ساكني منطقة تُحسب على الطبقة ما فوق المتوسطة، إلا أن المتسوقين فيها نادرًا ما يشترون قطعة لحم يزيد وزنها عن نصف كيلوغرام، أو قطعة من الجبن يزيد وزنها عن 100 غرام. أما الحوت وغلال البحر، فقد بات تناولها بالنسبة إلى الغالبية من ممارسات الماضي المكروهة، حتى لا نقول المحرمة.
لا يوجد سبب واحد وراء الارتفاع الجنوني للأسعار.
الجفاف وحده ليس سببًا، وزيادة أعداد السكان والسياح الوافدون على البلد ليست وحدها السبب، ولا الحرب في أوكرانيا وهجمات الحوثيين على السفن في منطقة البحر الأحمر وحدها هي السبب، ولا سياسات التصدير للحصول على العملة الصعبة. السبب مجموعة من العوامل تؤدي في النهاية إلى ما يسمى بالتضخم. لا يمكن فصل سعر التين عن سعر الطاقة وسعر العقارات وسعر النقل وارتفاع الأجور.
نحن لا نقرر سعر المواد الغذائية التي ننتجها، من يقرر هذه الأسعار هي الدول الكبرى. الفلاح يحتاج إلى البذور والأسمدة والأعلاف والطاقة والنقل والتوزيع، وهذه تخضع لسيطرة وحش يطلقون عليه اسم سوق المال. الأسعار تحدد هناك.
في الماضي كان التعامل في أسواق المال مقتصرا على متداولين محترفين، اليوم هناك ملايين المتداولين يوميًا، لا يعنيهم أن يكون سعر كيلو التين بـ17 دينارًا وسعر 100 غرام من الجبن 12 دينارًا.. لكل غلة مواليها.