الكذب ظهر قبل ظهور اللغة والإنسان

"تاريخ الكذب" يثبت أهمية الوهم في الطبيعة والحياة والفن.
السبت 2024/02/17
حتى الفن نوع مشروط من التدليس

الكذب كان موجودا في الطبيعة سابقا بكثير لظهور اللغة، وسابقا لظهورنا بكثير، ولم نكن سواء أنت أو أنا أو أي شخص آخر يتصور ذلك، بل إن الانجذاب الجنسي والتكاثر يُعَدّان أوهاما سابقة بكثير لتكوّن المجتمعات وتسبق بكثير أيضا ظهور مفهوم الغرام.

الأكاذيب الأولى سابقة لظهور اللغة، كما تعتبر الأكاذيب الأولى المدبرة وليدة التبصر سابقة للغة. تلك التي منشأها العقل الذكي وفي القدرة على استشراف المستقبل واستباق ما سيحدث. ستظهر اللغة لاحقا بعد ملايين السنين، بكل تأكيد ومثلما نعرفها ستكتشف الأكاذيب القدرة على أن تصبح أكثر تعقيدا واتقانا، لتنتج عنها الفنون والمعتقدات والعلوم ومجمل الثقافة المعاصرة.

انطلاقا من هذه الرؤية يأتي كتاب “تاريخ الكذب”، للروائي الإسباني خوان خاثينتو مونيوث رنخيل، ترجمة طه زيادة، والذي يناقش الكذب وأثره في التاريخ، والإنسان، والاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة، والفلسفة وعلم النفس، والأدب والفن، والسينما، مرورا بالحروب والأساطير والأديان والعلوم، وصولا إلى ما بعد الحداثة وشبكات التواصل الاجتماعي.

صناعة الوهم

الإنسان يتميز عن غيره من كافة الأنواع بأنه يتمتع بقدرة أكبر على صياغة الأوهام وهذا ما مكنه من الاستمرار

يقول رنخيل في كتابه، الصادر عن دار الخان، إنه لا توجد فحسب أكاذيب سابقة لوجود الإنسان، بل تفوقه. وليست البومة تحديدا من تختار اكتساب ريش مماثل لجذوع الأشجار، ولا الفهد الذي يقرر التلون بالأصفر وسط السافانا. كما لم يكن أمام الحرباء أو الحبار فرصة الاختيار.

 يكمن الكذب في الأنواع وليس في الأفراد، في الطبيعة، وفي خطتها الكبرى وفي سعيها الذي لا يكل من أجل البقاء والتطور نحو مكان بعينه، حيث تكمن إرادة الحث على ارتكاب الخطأ. لا يحتاج التدليس والغش والخداع إلى الإرادات الصغيرة لدى الكائنات التي تتحلى بالذكاء. تحاكي كؤوس بتلات زهرة الأوركيد إناث النحل، ولا تكتفي بتقليد هيئتها فحسب، بل تحاكي إنتاجها من الفيرمونات، ولكي تتمكن بذلك من جعل ذكور النحل تقوم بتلقيحها. وليس لديها حتى جهاز عصبي.

ويلفت إلى أن الإبداع والقدرة على الخيال يعدان من أفضل السمات التي تميز “القرد العاري” ـ كتاب علمي نشر عام 1967 يدرس خصائص الحيوانات التي تبرز تفرد الجنس البشري عن باقي فصائل الحيوانات ـ منذ ظهوره في العالم. يتيح الخيال المجرد فحسب، وليست القوة أو الحجم أو المقاومة أو السرعة، للإنسان التميز عن باقي الأنواع. وتعتبر القدرة على التخيل، مثل المخالب لدى النمر أو السم لدى الأفاعي، السمة المتطورة التي مكنتنا من البقاء على قيد الحياة والتكيف في النهاية مع محيطنا.

ويتابع رنخيل “سمح لنا الكذب والخداع والادعاء أكثر من أي شيء آخر عداها، بالديمومة، كما يعد نظم الشعر، السرد، تأليف الحكايات الخرافية، الحدس، التزييف، مراحل أساسية ضمن المعرفة. ويعتبر من الخطأ، استراتيجية المراوغة، الزعم، التخمين، الاستعارة، الافتراض، من بين العديد من الوجوه الكثيرة لأسلوب حياتنا في العالم. تعد طريقتنا في تشييد العالم. ولن يكون للعالم أو الفيلسوف خيار الإيقاع بأي شيء ذي قيمة، إذا لم تتوفر لديهما إمكانية طرح شباك فرضياتهما (وهي إحدى أشكال الكذب). مثلما نحتاج للأدب لكي نحكي ونروي لأنفسنا أحداث التاريخ أو النظريات من خلال إطار سردي مفهوم، ولا يمكن فهم الحياة ذاتها أو الهوية نفسها إلا على أنها مجرد حكاية.

ويؤكد أنه مع ذلك، وفي الوقت نفسه، فإنه حتى أكثر البشر تشككا، لا يستطيع مهما بلغ وعيه بهذا، ورغبته في تصديق زيف كل ما يحيط به، ومهما أدرك أن كل معارفه مجرد ظنون، أن يرفض بصورة قطعية كل ما تمليه عليه الحواس. لا يستطيع أي عقل سليم ألا يشعر بالتعاطف تجاه نظرائه أو تجاهل الألم الجسدي. وبناء عليه فبمجرد ظهورنا، وجدنا أنفسنا منجذبين نحو القيام بأفضل ما نجيد فعله. وكان أول شيء فعلناه هو الكذب والتخمين والمقامرة بإطلاق أول فرضية عظيمة: وجود العالم.

ويلاحظ رنخيل أن الإنسان يتميز عن غيره من كافة الأنواع بأنه يتمتع بقدرة أكبر على صياغة الأوهام، في عالم وكون أثبت فيهما الكذب أنه عامل تنظيم وفعل يحظى بتقدير. دفعته هذه القدرة على الخداع إلى إخضاع غيره من كافة كائنات الكوكب الحية، وإلى سيطرة مؤقتة (بالقوة أكثر من العقل) على محيطه.

الاستعارة والمجاز يشكلان عملية معرفية وفكرية ونواة لغوية تتيح لنا إضفاء معنى على العالم أو رسم عوالم ممكنة
الاستعارة والمجاز يشكلان عملية معرفية وفكرية ونواة لغوية تتيح لنا إضفاء معنى على العالم أو رسم عوالم ممكنة

 ويرى أن هناك سمتين على الأقل من الكذب تحفزان هيمنة الإنسان. من جهة جلب التحكم في الأنماط الخيالية الأساسية مع تطبيقات عملية، واللغة، وحظا من المعرفة. ومن جهة أخرى عززت القدرة على سرد الحكايات تماسك وتنظيم جماعات أكبر عددا. واحد واثنان: المعرفة والتماسك. ومع ذلك تنقصنا بشدة خاصية ثالثة من الكذب، وربما تعد أكثر أهمية من السابقتين لتكوين المجتمعات. فقد أدت قدرتنا على مواصلة الكذب وحدها، سواء بعضنا على بعض باستمرار أو على أنفسنا أيضا، للتسامح مع هذا الارتباط، ولولاها لم يكن ممكنا أن نتحمل بأي وسيلة أخرى هذا التجاوز شديد التقارب مع الأغراب. وأصبحت لدينا الآن بالفعل خاصية ثالثة: التعايش.

ويضيف “نحتاج، مثلما ذكرنا بالتحديد، لبلوغ الحد الأدنى من وحدة المعرفة، إلى الخيال. اضطر الإنسان الأول قبل وقت طويل من تعلم الكلام وسرد الحكايات حول النيران، إلى اللجوء إلى الكذب من أجل تطوير تفكيره الرمزي. تعد الاستعارة البلاغية، أول ما يركز عليه العقل، من أجل إطلاق عملية التجريد: عبر آلية تسمح من خلال الإحلال، بخلق صور مفهومة للعالم. وعلى هذا النحو، تحدث القفزة الاستعارية الأولى عندما تتحول دفقة حواسنا العصبية إلى صورة ذهنية. وبهذه الطريقة، ستصبح الاستعارة الخيالية ذكرى ألم أو تجسيدا ذهنيا لشخص عزيز، كما ستصير لاحقا رسم كهوف لثور البيسون فوق صخرة. ستصبح الاستعارة تجريدا لأي سلسلة من الأحداث، بما في ذلك التي لم تحدث بعد”.

ويضيف “وحدها الاستعارة، الإحلال، تزييف الصور، ستتيح الذكر والتنبؤ بالعملية وتكرارها من خلال ما تم سرده ذات مرة حول النيران، أو استباق تحركات الحيوانات المفترسة وطرائدها. تحدث القفزة المجازية الثانية بعد نحو مليوني عام، عندما تتحول الصورة إلى صوت. وتولد المفاهيم واللغة. وبناء عليه، لا يسعنا إنكار أن الاستعارة (المجاز) تظل كامنة خلف أي عملية معرفية وفكرية. إنها النواة اللغوية التي تتيح لنا سواء إضفاء معنى على العالم أو رسم عوالم ممكنة”.

ووفق رنخيل يقتضي الحديث عن المجاز، مثلما قد يقول أومبرتوإيكو، التحدث على الأقل أيضا عن رموز، رسم فكري (إيديوغراف)، نموذج، نمط أولي، حلم، رغبة، هذيان، طقس، أسطورة، سحر، إبداع، فكرة، أيقونة أو تجسيد، بالإضافة إلى أن المجاز وحده فحسب هو الذي يجعل اللغة نفسها، الرمز، المغزى، المعنى ممكنا. يعتبر الشعر مصدر أكثر أشكال الفهم الأساسية. لا يوجد بديل آخر، الذكاء البشري ليس لديه سبيل آخر. ولذلك تعتمد كافة معارفنا على التخمين والحدس والكذب.

الفن فعل تدليس

Thumbnail

يرى رنخيل أن كافة أشكال التقدم الإنساني، منذ التجمعات السكانية البدائية وصولا إلى المدن الكبرى، تقوم على الترابط، ومن ثم على الكذب الاجتماعي. نحتاج إليه ونعتمد عليه في كل لحظة. عندما أبتسم، عندما أومئ بالموافقة، وعندما أعبر عن الرفض، وأنني لست مهتما باصطحاب الأطفال هذا المساء بين اجتماعي في الخامسة والآخر في السادسة. نكذب عندما نتجمل، وعندما نفاضل بين ما نلبس، وعندما نسير بثقة بين طاولات متراصة أمام (تراس) واجهة مقهى مزدحم، وعندما نظل جالسين منتصبي القامة ولا نتهاوى على الأريكة، بالرغم من شعورنا بالانهاك التام. الظهر مستقيم تماما.

ويضيف “نكذب عندما نجاري التيار السائد، أو عندما نبالغ في الابتسام، نحاول بصفة عامة، إرضاء الآخرين، ويروقنا أن يتصرف الآخرون بالمثل معنا. وإذا كان هناك شخص غير لطيف، فإنه يثير استنكارنا ونقول إنه يتصرف كأحمق، لأنه كذلك بكل تأكيد. على الرغم من أنها بادرة ذكاء، أوضح بادرة على الذكاء. ولولا الشعور بالتعاطف لما قامت للحضارة قائمة على الإطلاق. هناك بعض الأشخاص الذين يتحصنون بصراحتهم المطلقة لكي يقولوا كل ما يفكرون فيه، متذرعين بأن ذلك يجعلهم أكثر أصالة، إلا أن هذا في الحقيقة يبرهن فحسب على حماقة، وعجز عن فهم واقع وعلى أحد أعراض الانطواء الواضحة”.

ويؤيد رنخيل مقولة أن السياسة هي فن إقناع الشعب بأباطيل صحية، لأجل غاية نافعة، ويستدرك “لكن غاية نافعة بالنسبة إلى من؟ لم يقل أحد نافعة للشعب ذاته. تعد الغاية النافعة للأكاذيب في الديمقرطيات الأدنى مجرد منافع ومكاسب السياسيين الشخصية. إن الدولة الشمولية تفرض أكذوبة وحيدة، تحاول السيطرة بصورة مطلقة على الصحافة ووسائل الإعلام، بغرض التدخل في كل رواية تصاغ حول الواقع وأحداث الحاضر، وتحاول الوصاية على الأدب، الفنون، والرموز، بوصفها أعظم صناع الخيال، وسوف تستخدمها بمثابة خلفية لصياغتها الخاصة في إعادة كتابة التاريخ”.

 وأخيرا يبقى أقصى طموح الشمولية، وفق الروائي، دائما في تحطيم الحرية الفردية لدى كل رجل وامرأة، وهدم الحاجز الواقعي لأكاذيبهم الخاصة، ومحاولة تقرير شكل فنتازياتهم وأحلامهم وخيالهم الشخصي. لا ينبغي لأحد أن يفرض علينا وهما. نحن جميعا لدينا الحق في اختيار الأكاذيب التي نصدقها.

خوان خاثينتو مونيوث رنخيل: لا توجد أكاذيب سابقة لوجود الإنسان بل تفوقه
خوان خاثينتو مونيوث رنخيل: لا توجد أكاذيب سابقة لوجود الإنسان بل تفوقه

ويشير إلى أنه على غرار التفكير الأسطوري والديني لا يعدو الإبداع الفني أكثر من عرض آخر عن ذكائنا بوصفه سمة متطورة. ولكن كثيرا ما يترك الفنان نفسه ينسحق أمام الكذب، ومن ثم يصبح هو تحديدا الأقل كذبا، بمجرد اعترافه بأنه لا يقدم أي شيء آخر سوى الخيال. ومثل جميع البشر فإنه ينشئ منذ الوهلة الأولى التي يحاول فيها إعادة تصوير الواقع، نوعا من التدليس. في البداية من خلال إعادة التصوير ذهنيا، عن طريق القفزة المجازية الجديدة وصولا إلى العمل لاحقا.

 ومع ذلك فإن العمل الفني يختلف عن كافة أنماط التدليس الأخرى في أنه الغاية في حد ذاته. ويمنح الفنان، بمجرد الاعتراف بتدليسه، العمل الفني استقلالية وهوية حصرية. وفي حالة انحراف الغاية الابداعية عن هذا الطرح فحسب، والسعي للحصول على أي نوع آخر من المنفعة (الفنان الذي ينتحل عمل الفنان الذي يقلد فنانا آخر للتفاخر بمستواه الاجتماعي، والفنان الذي يسخر موهبته لخدمة نظام سياسي والفنان الذي يبيع نفسه)، فإننا بصدد الحديث عن نوع من التدليس مشابه لغيره من الأنماط.

وكذلك الحال بالنسبة إلى الفنان الذي ينسى وهمه ويعتقد أن عمله مماثل للواقع أو أكثر واقعية من ذلك الذي يعد تصويره، فإنه بذلك ينزلق إلى خداع الذات ويحط من شأن الفن. فالواقع أكذوبة كبيرة والفن كذب على كذب، ويجب على الفنان أن يظل واعيا دائما أنه يكذب من أجل الكذب بمنتهى الصدق.

ويقول رنخيل “يعد وعي الفنان ذاته بالعملية الابداعية من بين الأمور التي يتم تقييمها الآن، كعوامل حاسمة في الفعل الفني. وعيه بأنه ينجز فنا، ومن أجل هذا فإنه يستفيد من التدليس. تحركه نزعته الفنية، مقابل نزعته الاقتصادية، ولنأخذ مثالا، صانع المراحيض المتواضع، وإرادة التدليس لديه. يجد الفنان المتعة في إبداع أوهامه واعيا أنها أوهام. وأن يكون لدى مستقبلي العمل أيضا القدرة على استخلاص المتعة من الكذب. يدرك من يتأمل عملا ذهنيا أنه يقترح عليه لعبة إعادة تفسير وبناء فوق واقع، غير موجودة في لوحة أو طبيعة صامتة. لا يستطيع المستهلك الشره للعنف الشديد في السينما، في أغلب الأحوال ألا يشيح ببصره عند حدوث موقف مشابه في الواقع، أو يغير القناة عندما تقدم نشرة الأخبار بثا مباشرا لمصرع أحدهم، لأن قدرة ذائقته الفنية على الاستمتاع تميز بين ما هو خيالي وما هو ليس كذلك”.

ويرى أن مرحلة ما بعد الحداثة ذاتها تعد بنسبة كبيرة، نوعا من التأمل في هذا الوعي بالكذب. يبدع الفنان الكلاسيكي من خلال المجاز. أما فنان ما بعد الحداثة فيبني مجازا فوق المجاز. وهو يعي الحالة المجازية، المؤقتة، الكاذبة وما وراء الكذب فيما يقوم به. تمثل مرحلة ما بعد الحداثة، دون أدنى شك، قفزة نوعية ضخمة في تطور إبداعنا الثقافي. ولكن مشكلتها الكبرى أنها ما تزال مبهورة باكتشاف ذاتها: مجاز مجاز المجاز. ولا يبدو أن بوسعها الخروج من دائرتها ونزعتها الوحدوية.

12