الكتابة من داخل أجناس أدبية متعددة هل تخلق إبداعا متينا

تعدد مجالات الكتابة والإبداع بين رافض ومؤيد.
السبت 2022/08/27
لا يمكن للكاتب أن يكون الجميع (لوحة للفنان بطرس المعري)

إذا كان هناك من يشترط الالتزام بالكتابة من داخل جنس أدبي واحد كتعبير أقوى ومنجز أدبي أكثر خصوبة تقوم على التراكم، وعلى اعتبار أن الكتابة فعل إنساني وتاريخي مفصلي، فإن هناك من يجرب الخوض في أجناس أدبية متعددة، ويبقى الجدل قائما بين من هم مع التعدد ومن يخيرون الالتزام بطريق واحد لضمان تركيز أعمق.

الميل المفرط للجنس الأدبي الواحد غير مقبول عند البعض ومستحب ممارسته إذا توفرت شروطه عند البعض الآخر، والمدافعون عن تمازج الأجناس الأدبية يبررون ذلك بأن ما يعجز عنه الشعر تتولاه الرواية، وما يعجزان عنه تقوم به الكتابة النثرية، وما لا يظهر إبداعيا تتولاه الكتابة النقدية والتاريخية.

وتقارب “العرب” مع عدد من المبدعين والنقاد هذا الموضوع من مدخل: هل يمكن للكاتب والمبدع تملك تلك القدرة في أن يكون ناجحا في آن واحد كشاعر وروائي وناقد وفنان تشكيلي؟ وكيف يتدبر الوقت والكفاءة ليكون نتاجه يمتلك تلك القيمة الأدبية والاعتبار الرمزي؟

دمج الأجناس الأدبية

الكتابة كما يقول فريد الزاهي، الكاتب والمترجم والناقد الفني المغربي، ممارسة لا ضفاف لها، ومفهوم الجنس أضحى خدعة بنيوية متجاوزة، والكاتب الجيد يكتب بالجودة نفسها (في الغالب الأغلب) في أي موضوع أو ميدان يطرقه، وإلا فإنه يلزم الصمت.

ويضيف “في ستينات القرن الماضي وسبعيناته وثمانيناته كان الأدباء والمفكرون يعايشون الفنانين التشكيليين، فيكتبون عنهم من باب الصداقة والاهتمام الجمالي نصوصا ذات طابع أدبي وشعري مثلا (الخطيبي واللعبي ومحمد برادة وإدريس الخوري ومحمد بنيس…)”.

بوكس

ويورد فريد الزاهي، في حديثه لـ”العرب”، أنه في غياب نقاد للفن متخصصين في هذا المضمار، كانت هذه النصوص ذات قيمة ثقافية وتدخل في دينامية التفاعل الثقافي بين مكونات الثقافة المغربية، بيد أن تطور الحركة التشكيلية سوف يفرز نقادا متخصصين، بعضهم أتى من ممارسة التشكيل والبعض الآخر من الجماليات والفلسفة، وآخرون من تكوين أكاديمي بالخارج.

لكن نزار كربوط، الشاعر والكاتب المغربي، له رأي مختلف، إذ يرى بأنه من الصعب على المبدع أن يوفق بين رغباته أو بالأحرى هواجسه الإبداعية ويعطي لكل جانب فيه حقه كاملا، حينما نجد – على سبيل المثال طبعا- إنسانا يكتب القصيدة والرواية ويرسم اللوحة وهو في نفس الوقت يكتب في النقد أو ما شابه، فهو في نظري إنسان يريد قول الكثير من الأشياء وطرح العديد من الأفكار لكنه عن غير قصد يشتت نفسه ويشغل وقته أكثر على حساب جنس أدبي أو فني بإمكانه تطويره وضخ كل طاقاته من أجل تبليغ رسالته على أكمل وجه.

 ويقر كربوط، في حديثه لـ”العرب”، أنه إذا نظرنا إلى هذا الأمر بعين سيكولوجية خالصة فنحن أمام مبدع يريد قول كل شيء بطرق متعددة وفي بعض الأحيان تكون متناقضة أيضا عوض التركيز على عمق الذات المبدعة ومحاولة إخراج مادتها الإبداعية بطريقة سلسة بسيطة وينتشر صداها بسرعة وإلى أبعد مدى.

إذا كانت المعرفة الكلية بالجنس الأدبي تساهم في التطور النصي والفني، فإنه حسب فريد الزاهي، يلزم هنا أن نفرّق أولا بين أمرين: الكاتب ذي الإستراتيجية الخاصة، والكاتب الذي قد يكتب في أيّ شيء وهذا التمييز لا يتطلب منا تحليلا، ثم بأن نميز بين نمطين من الكتابة: الكاتب الذي يمارس ارتحالا مفكَّرا فيه بين الأجناس فتراه يمارس الشعر والرواية ويمارس التنظير شعريا، فلا يتقيد بجنس حتى وهو يكتب عن الفن التشكيلي. فحسب فريد الزاهي، لنا في تجربة عبدالكبير الخطيبي أنموذج واضح عن ذلك، وحين تسأله عما يكتبه مثلا عن الفن، يجيبك أنها كتابة لا نقد تشكيلي. وهذا الضرب من تفاعل “الأجناس” يمنحنا التجربة نفسها بالقيمة والعمق نفسيهما في أيّ مجال من المجالات.

من وجهة نظر متماهية مع فريد الزاهي، فالعملية الإبداعية عملية معقدة، لكون مجموعة من العناصر تتداخل في الإنتاج الأدبي أو الفني، حسبما يرى عبدالنبي دشين، في حديثه لـ”العرب”.

ويوضح دشين أنه إلى جانب العامل الذاتي والاستعداد الفطري، تسهم عوامل خارجية في بلورة الكيان الإبداعي، إذ لا يمكن أن ينشأ إبداع من فراغ ثقافي أو اجتماعي، لكون التجارب تتلاقح فيما بينها، كما أن معيش المبدع وخزان ذكرياته، كل ذلك يعمل على تخصيب التجربة، وقد يعين على امتلاك الرغبة للإبداع في أكثر من مجال بتجاوز الحدود الأجناسية التي تمنح لكل نوع سماته وخصائصه المميزة، لاسيما بعد أن أثبتت الصيرورة الأدبية انتفاء مفهوم نقاء الجنس، حيث يتسرب الشعري إلى النثري والعكس أيضا، وحضور الصورة والإيقاع، مما مكن من بلورة منتوج إبداعي يتشرب سمات حقول متعددة ومختلفة.

فالمبدع في مجال الشعر والرواية والقصة لا يتقيَّد بالأدوات النقدية ولا بمَفاهيمها، لأن الإبداع مرتبط بشروط ذاتية وموضوعية، تختلف حَسَب سياقات إنتاج كل نص، من هنا يعتبر الناقد حميد ركاطة أن المُزاوجة بين الإبداع والنقد مقبولة وهي ميزة في نظره، وصاحبها يكون أقرب إلى الموضوعية في مقارباته النقدية، كما أن اطلاعه على تقنيات الكتابة الإبداعية يجعله قريبا من النص في الغالب، وأكثر معرفة بحيثياته، غير أن هذا النوع من التحليق نادرا ما يحافظ على توازنه لزمن طويل، لأنه قد تغلب فيه الكفة لجهة على حساب أخرى.

لكن هناك من يرى في هذا الدمج نوعا من الازدواجية في الخطاب يستحيل معه إقناع المتلقي القارئ بما يقدمه الكاتب/الناقد، والصراع الذي يشتعل داخليا بين الصفتين، إن كان في كتابة قصة أو شعر أو رواية، خصوصا إذا كان يجد صعوبة في انتقاله السَّلِس من حقل إلى آخر دون أن يخل بتوازنه.

هجرة الشعراء من القصيدة إلى الرواية وهَرْوَلة الكثيرين نحو الجوائز، واقع معيش، فبالنسبة إلى الكاتب المغربي محمد علوط هناك كتاب صاروا اختصاصيين في القفز بالزانة من جنس أدبي إلى آخر، فئة كثيرة منهم تلهث وراء اقتناص الجوائز الأدبية، حين يترحل كاتب من جنس أدبي تكرس فيه إلى جنس أدبي آخر فإنه يترك الكثير من ريش أجنحته في طريق الهجرة، أما الذين ابتلوا بكتابة نص إبداعي من أي جنس أدبي واستبقوه للكتابة النقدية أشبه بداية أو حملة انتخابية سابقة لأوانها فذاك مسلك مزر لا يعوّل عليه.

إذا كان النقد كتابة إبداعية موازية، قد تتفوق أحيانا على النص المنبوش فيه، كما أنها قد تقتله، فإن فريد الزاهي، الكاتب والناقد الفني، يرى أن الناقد الذي يزاوج بين الممارسة التشكيلية والنقد وأغلب هؤلاء، إن لم نقل كلهم، فنانون متواضعون يروجون لتجاربهم المتواضعة بالكتابة عن الفن، ولا أدل على ذلك من أنهم يُذكرون في ممارستهم النقدية ولا يأتي لهم ذكر في “ممارستهم التشكيلية”، إلا حين يقدمون أنفسهم باعتبارهم نقادا وتشكيليين.

هوية مميزة

◙ التركيز على جودة المعنى هو الوحيد الضامن لجودة النص (لوحة للفنان بطرس المعري)
◙ التركيز على جودة المعنى هو الوحيد الضامن لجودة النص (لوحة للفنان بطرس المعري)

إذا كان الجنس الأدبي بمثابة عقد نصي بين الكاتب والقارئ، حيث يكون التداخل بمثابة تمرد على ذلك العقد المسبق، ففي الوقت الذي يشتغل فيه الكتاب بأنواع متعددة من كتابة الشعر إلى القصص القصيرة والروايات، وربما حتى المقالات النقدية، فإنه يجعل من إستراتيجية التسويق الخاصة أكثر صعوبة وربما مستحيلة، لأن القارئ يضيع بين هويات متعددة للكاتب خصوصا عندما تكون الهجرة من القصة والشعر نحو الرواية لاعتبارات تخص الرغبة في الانتشار السريع وتطلعا للفوز بالجوائز.

في هذا الإطار يقول القاص والناقد عبدالنبي دشين إن التداخل بين الأجناس لم يلغ احتفاظ كل مجال بهويته المميزة له، لأن حضور بعض الخصائص المرتحلة من أنواع أخرى لم يطمس الخاصية المهيمنة بما هي علامة هذا الأثر الإبداعي، وعلى ضوء ذلك صار الحديث عن إمكانية تملك المبدع للقدرة في أن يكون ناجحا في آن واحد كشاعر وروائي وناقد وفنان تشكيلي مثيرا للتأمل، ولعل في ما تم طرحه حول وجود تداخل بين المجالات، يسعف مقاربة الموضوع، على اعتبار أن هوية المبدع تتحقق من خلال ما تم تكريسه إبداعيا.

 غير أن ذلك كما يقول دشين لـ”العرب”، لا يمنع من إغناء تجربته بالانفتاح على شتى مجالات الإبداع، التي تصير كلها عوامل مساعدة لتطوير مجاله، وتعميق البحث فيه، لأن محاولة الاشتغال غير المؤسس على امتلاك هوية إبداعية، قد يضعف التجربة، ويقلص من إمكانية تطويرها ومنحها قوة الصمود والاستمرارية، لأن الجهد المبذول بطريقة غير مقننة، إنما هو هدر للطاقة، وإنتاج عمل هجين دون ملامح، ولا يمتلك المؤهلات التي تمكنه من التجذر في التربة الإبداعية.

وبالنسبة إلى فريد الزاهي فإن ممارسة الكتابة والترجمة أمر جارٍ ومتداول في الغرب كما في المغرب، فهنري كوربان أول مترجم لهايدغر، وجان هيبوليت كان، إلى جانب ممارسته الفلسفية، مترجما لهيجل إلى الفرنسية، كما أن جاك دريدا ترجم هوسرل قبل أن يُعرَف بممارسته الفلسفية، فالترجمة والكتابة الفكرية متواشجتان بالرغم من وجود مترجمين محترفين لا يمارسون الكتابة والبحث، ولنا أسماء بارزة في هذا المضمار التفاعلي من قبيل محمد برادة وعبدالسلام بن عبد العالي وغيرهما.

قد يختار المبدع الكتابة في جنس أدبي لمدة طويلة ثم لاعتبارات غير واضحة قد تكون مرتبطة باستنفاد الطاقة والإمكانيات، ينتقل للكتابة في جنس آخر، فعلى المستوى المغربي تفوّق شعراء وقصاصون في جنس الرواية وبرزوا فيها، نذكر عبدالحميد شوقي، صاحب “سدوم” و”خراب الحلم”، و”الموتى لا يعودون من السماء”، الذي يقول إنه لم يلج تجربة الرواية إلا متأخرا بعد أن ضاقت به ضفاف الشعر، لكن الشعر ليس الرواية كما يقول، رغم أن السرد الذي لا يقوم على دفق شعري لا يقدم رواية عميقة ومأساوية.

لكن بالنسبة إلى نزار كربوط فالوقت لا يسعف، إذ نحن الآن نعيش في عالم يستنزف منا الكثير والوقت صار يسيل بسرعة لم تكن في الحسبان خصوصا أن فعل القراءة – في نظره – يحتاج إلى مساحة زمنية كبيرة جدا حتى يمكننا استنشاق رائحة إبداعات قوية وعميقة في نفس الوقت، ليس بالضرورة طول النص الأدبي وضخامته وكثرة القول فيه هو دليل جودته وعمق رسالته الإنسانية بل ما لا يقال في نص قصير جدا هو ما يجعل المتلقي منفتحا على عالم السؤال. التركيز على جودة المعنى هو الوحيد الضامن لجودة النص وعلى من يريد قول الكثير عليه أن يكون حذرا وألا يسقط في فخ الرداءة.

 

13