الكاتب والناقد السوري نبيل سليمان لـ"العرب": الرواية تصهر المعارف والفنون

"تحولات الإنسان الذهبي".. حكايات مثيرة حين يتحول الحمار إلى إنسان.
الخميس 2023/03/16
حاولت اكتشاف كيف ننظر إلى عصرنا بعيني حمار

تحضر الحيوانات كشخصيات سردية في العديد من الأعمال، ربما كان أشهرها الأثر العربي “كليلة ودمنة”، أو أول رواية في التاريخ البشري “الحمار الذهبي” للوكيوس أبوليوس، وشخصية الحمار بالذات هي شخصية مبهمة رغم ما طرأ عليها من تشويهات يحاول الكاتب والناقد السوري نبيل سليمان دحضها. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول روايته الأخيرة “تحولات الإنسان الذهبي”.

الحمار راويا وبطلا فاعلا في تشكيل رؤى وأفكار ومسار أحداث الرواية الثالثة والعشرين للروائي والناقد السوري نبيل سليمان “تحولات الإنسان الذهبي”، واعتبر الناقد المغربي سعيد يقطين أن “استبدال الحمار في الرواية بالإنسان هو تحويل ومعارضة لكل ما كتب عن الحمار من نصوص إبداعية، قديما وحديثا، واختلاف عنها”.

وبين الناقد أن سليمان لم يتخذ الحمار قناعا ولا رمزا ولا أمثولة لتصريف مواقف محددة، ولكنه جعل منه فقط حافزا للسرد عن التحولات التي تطرأ على الإنسان في حياته اليومية، من خلال رصد جوانب من حياة البطل نفسه في ذاته.

الحمار شخصية

 حسب يقطين إن رواية “‘تحولات الإنسان الذهبي’، الصادرة عن دار خطوط وظلال، تتخذ مسارات متعددة لا نحس بها إذا كان همنا هو فقط متابعة حبكة الرواية من هذه المسارات ما هو تاريخي يتصل بتطور المجتمع العربي منذ الخمسينات إلى الآن، ومسار ثقافي يتجلى في رصد العلاقات بين المثقفين وهم يشاركون في التظاهرات والمهرجانات والمظاهرات ومسار معرفي في تقديم مادة معرفية عن الحمار في ارتباطه مع الإنسان”.

◙ في الرواية تجد تفاعلا عميقا واشتباكا وجوديا إن صح التعبير مع كتاب وشعراء كثيرين
في الرواية تجد تفاعلا عميقا واشتباكا وجوديا إن صح التعبير مع كتاب وشعراء كثيرين

انطلاقا من تساؤل: لماذا الحمار؟ كان الحوار، حيث يقول سليمان “أظن أن الحمار بدأ يشغلني منذ الصبا، منذ ستين سنة على الأقل. كان يغيب، وقد يطيل الغياب، لكنه يحضر دوما، وقد يطيل الحضور. وكان الصديق المفكر الراحل بوعلي ياسين (1942 – 2000) يشاركني انشغالي بالحمار، ومثله الصديق الكاتب والمترجم غازي أبوعقل الذي لم ين يزودني بما يصادف في قراءاته بالعربية وبالفرنسية بخاصة، ويتعلق بالحمار. هل كان ذلك بتأثير ما يشغلني من الطبيعة، طوال عمري، في المعايشة كما في القراءة والكتابة؟ بالتأكيد”.

ويضيف “بالتأكيد أيضا كان تأثير ما لهذا الكائن ‘الحمار’ من خصوصية في التكوين النفسي الروحي والجسدي. كل ذلك ظل يتفاعل في دخيلتي عشرات السنين. وكان أن جمعت مدونة ضخمة تترامى ما بين التراث العربي والعالمي والروايات المعاصرة والأبحاث والأخبار وغيرها. وقد أثبت في نهاية الرواية مئة وثلاثين مرجعا. ومثل هذا الأمر نادر في الرواية. تحضرني الآن رواية غادة السمان ‘ليلة المليار’ وقائمة مراجعها في ختامها. بالنسبة إلي، ما أكثر ما رددت خلف ناتالي ساروت ‘الرواية بحث’، بمعنى أنه لا تكفي فيها الذكريات، بل قد تقتضي السيرية أن يبحث الكاتب في زمن مضى وبهتت بفعله الذكريات. وثمة من يربط بين التهميش في الرواية -وهو نادر أيضا- وبين البحث. وقد حضرت لعبة التهميش مرارا في رواياتي، لكن حضورها هذه المرة في ‘تحولات الإنسان الذهبي’ جاء لعبة كبرى فيها”.

ويوضح سليمان أنه “لم يكن حمار توفيق الحكيم، وهو الشهير عندنا بفضل روايتيه ‘حماري قال لي’ و’حمار الحكيم’، وكذلك ‘كتاب الحكيم’، ومثله لم يكن حمار شيخ كل من كتب عن الحمار: لوكيوس أبولوس في روايته ‘تحولات الجحش الذهبي’، ولا حمار المغربي حسن أوريد في روايته ‘سيرة حمار’، ولا حمار رواية العراقي كريم كطافة ‘حمار وثلاث جمهوريات’، لم يكن كل ذلك غير قناع للكاتب”.

 لكن سبيل “تحولات الإنسان الذهبي”، كما يبين سليمان، هو سبيل آخر مختلف جذريا. وثمة روايات أخرى كان الحمار “بطلها” الوحيد، ولكن ككائن وليس كقناع، مثل رواية سوسن جميل حسن “النباشون”. لأنها الطبيعة في أحد تجلياتها: “الحمار”، لأنه كائن مثل أي من كائنات الطبيعة “حتى الجماد: أليس كائنا؟”. وجاءت في هذه الرواية لعبة التحول من حمار إلى إنسان هو كارم أسعد الذي يأمل توالي الدورة الطبيعية، فيتحول هو، الإنسان، أيضا إلى حمار. ولعبة التحول هنا هي من لعبة التقمص كما هي خلافها. في معتقدات بعض بالتقمص أن الانتقال من لبوس البشرية إلى لبوس الحيوانية “الحمار هنا” هو عقاب على ما اقترف الإنسان، أما في رواية “تحولات الإنسان الذهبي” فليس كذلك، بل لعله العكس، أي لعل العقاب ينزل بالحمار إذ يتحول إلى إنسان. والمهم هو ألا يكتفي واحدنا بظاهر الأمر، أو أن يأخذه على مأخذ العبرة، أو على مأخذ السخرية والضحك.

ويشير سليمان إلى أنه “من عيون التراث الأدبي العربي كتاب/ موسوعة ‘نشوار المحاضرة، وأخبار المذاكرة’ للقاضي أبوعلي المحسن بن علي التنوخي، الذي عاش قبل ألف سنة ونيف. وقد ألزم التنوخي نفسه بألا يضمن كتابه/ موسوعته شيئا نقله من كتاب، وهذا ما خالفته فيه كثيرا، مع أنني اقتديت به في طموحي إلى أن أكتب موسوعة ‘حمارية’ تنظر إلى عصرنا بعيني حمار، سواء تحول إلى إنسان مثل كارم أسعد في الرواية أم لا. هكذا تجد في رواية ‘تحولات الإنسان الذهبي’ تفاعلا عميقا واشتباكا وجوديا إن صح التعبير مع كتابات لعزيز نيسن ومحمد المخرنجي ومجيد طوبيا ومحمود درويش وسليم بركات ومحمود السعدني وغازي القصيبي وألف ليلة وليلة وأحمد إبراهيم الفقيه وزكريا تامر وابن المقفع والدميري وإميل جيبي وثربانتس وغونتر ديبرون ولوقيانوس السميساطي وممدوح عزام ويحيى حقي وعشرات سواهم”.

◙ سليمان لم يتخذ الحمار قناعا ولا رمزا ولا أمثولة لتصريف مواقف محددة، ولكنه جعل منه فقط حافزا للسرد عن التحولات التي تطرأ على الإنسان في حياته اليومية
سليمان لم يتخذ الحمار قناعا ولا رمزا ولا أمثولة لتصريف مواقف محددة، ولكنه جعل منه فقط حافزا للسرد عن التحولات التي تطرأ على الإنسان في حياته اليومية

وبفضل ذلك التفاعل وذلك الاشتباك يظن الكاتب أن “تحولات الإنسان الذهبي” جاءت رحما خصيبا لخطابات عديدة ومتنوعة، قد تكون متناقضة أو متكاملة. إن حضور عبدالسلام العجيلي في حياة كارم أسعد عندما كان مدرسا في الرقة، أو حضور الطيب صالح عندما التقاه كارم أسعد في مهرجان أصيلة، هما خطابان خاصان، فيهما السيرية وفيهما الثقافة المعاصرة والثقافة التراثية العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية.

وعن لوكيوس أبولوس وروايته “تحولات الجحش الذهبي” يؤكد سليمان أن لوكيوس أبولوس الجزائري الأمازيغي هو أبو الرواية، لأنه أول من كتبها، فرواية “تحولات الجحش الذهبي” هي التي افتتحت تاريخ الرواية، هي الرواية الأولى. ويقول “كنت قد وضعتها نصب عيني منذ عشرات السنين، حتى إذا كتبت ‘تحولات الإنسان الذهبي’ اخترت الطريق المعاكسة لطريق أستاذي، فتحول الحمار إلى إنسان، بينما تحول الإنسان إلى حمار وبفعل السحر، في رواية أستاذي، وفي روايات من اتبعوه إلى يومنا. الإنسان الذهبي الذي يتقلب من بلوى إلى بلوى كأنه يتقلب من امتحان ومن محنة إلى امتحان وإلى محنة، فيزداد ‘ذهبية’ في هذا الجوهر الفني والإنساني، جوهر السلوك والمبادئ، حيث لا يفتأ الإنسان يكابد كي يبرأ من التشوهات التي تتقاذفه وتسفله طمعا وحقدا وقتلا ووحشية ونفاقا وذكورة وغيرها”.

فضاءات متعددة

وحول شخصية “تولاي” المحورية في الرواية يقول سليمان “التقيت بالكاتبة التركية تولاي في إحدى دورات مهرجان عبدالسلام العجيلي للرواية العربية في الرقة. ثم التقيتها في مهرجان الأدب العالمي الذي انعقد في آكياكا التركية. ولست أدري كيف صارت تولاي شخصية محورية في الرواية. ومثلها هو الصديق بركات كار، ابن أنطاكيا الذي صدع المحكمة التركية مرة: أنا تركي من أصل سوري، وكان مترجم الأدباء الأتراك الذين شاركوا في مهرجان العجيلي. فبركات هو أصلان في الرواية، لكن نسبة ما هو سيري حقا وواقعي حقا في الرواية من وعن تولاي وبركات لا تتعدى 10 في المئة، وما تبقى اسألوا عنه التخييل الروائي وأسراره وألاعيبه”.

وعن بنيته للرواية يلفت الكاتب إلى أنها جاءت في أربعة فصول، أولها عنوانه “على شفا زلزال أو زمن تولاي”. وسر العنوان هو في الزمن الروائي لهذا الفصل، سواء ما اتصل منه بمدينة الرقة ومهرجان العجيلي، أم آكياكا ومهرجان الأدب العالمي الخامس. أما الفصل الثاني فقد عاد إلى الوراء في محطات متفاوتة من عمر كارم أسعد، وفي محطات متفاوتة من الأمس السوري المتراوح بين ستينات القرن العشرين والثورة السلمية السورية عام 2011 وما أعقبها مما يسميه بالزلزال.

وقد عاد بناء الرواية في الفصل الثالث وعنوانه “على شفا الزلزال” عشية الزلزال السوري، ولكن مع التشديد على الفرق بين شفا زلزال وشفا الزلزال، بين تعريف الزلزال وتنكيره. وقد تكرر التعريف في عنوان الفصل الرابع والأخير، وهو “زمن الزلزال”.

ويضيف “من أسف أن زلزال الطبيعة قد ضرب ضربته للتو في سوريا وفي تركيا، فاندغم السياسي الاجتماعي في الطبيعي، وتقوض المجاز الذي كان لكلمة زلزال منذ 2012، مثلما تقوض ادعاء من ادعى بأن ذلك المجاز هو هرب من تسمية الثورة باسمها، على الرغم من أنني طالما سميت الثورة السلمية باسمها، وكذلك الثورة المغدورة أو المهزومة، مثلما سميت الحرب القذرة والعسكرة والأسلمة والدكتاتورية بالزلزال، وقد حضر كل ذلك في رواية ‘تحولات الإنسان الذهبي’ بالعربي الفصيح، كما حضر بالعربي الفصيح مثلا موت صلاح جديد وموت حافظ الأسد”.

المهم في الرواية ألا يكتفي واحدنا بظاهر الأمر وأن يأخذه على مأخذ العبرة، أو على مأخذ السخرية والضحك

ويرى سليمان أن “فضاءات بحور الرواية وسماواتها تنطلق من الرقة إلى اللاذقية إلى قرية نيبالين، ومن أنطاكيا إلى آكياكا إلى مرمريس إلى أزمير في تركيا، ومن كراسنو يارسك في سيبيريا إلى بريمن في ألمانيا، ومن مداوروش الجزائرية حيث ولد لوكيوس أبولوس إلى المغرب؛ فاس وبني عمار، ومن بريدة في السعودية إلى كردستان العراق إلى الكويت إلى فرنسا. براري هي أم بحور، وسماوات أم فضاء روائي تمرح به شخصيات الرواية، فتتوله بفضاء ويطردها فضاء ويصخب فضاء بأحزاب أو مهرجانات أو جمعيات أو مجلات أو صحف. لها جميعا اسم واحد: الحمار، وإن شئت: الحميرية، وإن شئت الحمارية”.

ويتابع “في كل هذا يغلب التوثيق على التخييل، فجريدة ‘حمارتي’ المصرية أو جريدة ‘الحمارة’ السورية، وحزب الحمير الفيسبوكي أو مهرجان بني عمار للحمير أو حزب الحمير الكردستاني. كل ذلك حقائق ووقائع اليوم أو أمس أو أول أمس في اللاذقية أو دمشق، في القاهرة أو السليمانية أو الخرطوم أو نابلس أو غيرها. في تلك الفضاءات الروائية انعجن الفن التشكيلي (الفنان المصري الكبير محمود سعيد ولوحاته الحمارية مثلا)، بالغناء التركي أو العراقي وبالموسيقى الكلاسيكية والأمثال الشعبية والسيناريو. فالرواية مصهر المعارف والفنون حقا”.

13