القوالب الجاهزة تجعل من النقد المسرحي ومقولاته كفساتين المناسبات

قلة هم النقاد المسرحيون الذين يخرجون عن القوالب الأكاديمية المكررة، من هنا تأتي أهمية بحث “التفكير مسرحيا، إمكانيات التجاوز وآفاقه.. من التراث إلى ما بعده نحو ممكنات صياغة عربية موسعة” للناقد المغربي الحسين الرحاوي، والذي حصل بمقتضاه على جائزة الهيئة العربية للمسرح في مسابقتها للبحث العلمي – النسخة التاسعة لعام 2024. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الرحاوي.
يقول الحسين الرحاوي لـ”العرب”: “إن ‘خرق السائد’، أو لنقل بلسان شاعر مصر المعتبر أمل دنقل ‘خرق الجدار’ من أجل ثغرة ليمر النور للأجيال، هذا الطموح يبقى دائما في أفق الممكن وقودا لكل فعالية نقدية كانت أم إبداعية واعية بذاتها وبقيمة إنفاقها للجهد والعمر سبيلا من أجل الشروق مرة، ولأن ‘خرق السائد’ على مستوى النقد هو ما يجعل السؤال النقدي يكون أكثر نجاعة ومردودية وكفاءة.”
ويضيف “إن الحيرة التي يسلمنا إليها السؤال والتساؤل والتفكير، بما هو (أي الكلام المتسائل) جزء يطلب ما يُكمله، لا طلبا لليقين بل من أجل استعادة القدرة على التفاعل والإبداع والتجدد، إن الإقرار بالنقص والرغبة المتواصلة والمحمومة من أجل اللامُدرك ‘الكمال’ هو أفضل من الأمان الخادع، واليقين الذي يرهننا بكامل راحتنا للوهم والترهل، على هذا كان على مستوى تاريخ الظاهرة المسرحية (التي تشترط القناع من أجل إسقاط الأقنعة) التطور اللافت الذي حصل، حصل دائما بفعل القلق الوجودي، والتفكير المستمر في المسرح، في أدواته، وإمكانياته، في وسائله ومبانيه من قبل رجالات المسرح أنفسهم، في كل القضايا التي تهم المسرح نفسه.”
رؤى متجددة
يوضح الرحاوي “إن كان الافتراض الأول الذي دفعني إلى المغامرة هو اختبار نفسي بالأساس، هل بإمكاني تجاوز الكآبة الأكاديمية، في بحث ليس من السهل خوض غماره إلا بوجود قدر من الحيوية والمرونة الإبداعية التي ترفع النقد لا إلى الاشتباك بل لمستويات الحوار المتكافئ، أي بالغوص في البنى العميقة لكل ما يتحرك في الخفاء، إلى مستوى ذلك الزبد الشارد الذي يطفو على بحر الإبداع كما يحلو لهيرمان هيسة، هذا من جهة، ومسألة أخرى هي بمثابة التحصيل الحاصل، يتعلق بذلك السؤال المعتاد الذي يعرف كيف يخاتل كذئبة رقطاء عندما نمارس النقد أو في إمكانية ممارسته دون إغضاب أحد، كما سبق أن ذهب رائد النقد الثقافي، عبدالله الغذامي، إني متأكد من الهاجس الثاني وشبه متشكك في الافتراض الأول الذي دفعني للغمار.”
ويتابع “إذا كان هذا الافتراض الهاجسي عندي قد انطلق من أساس الناظم الفكري الذي دأبت الهيئة العربية للمسرح في مسابقات البحث العلمي المسرحي على وضعه منطلقا، فلأن الناظم نفسه كما افترضت يحلق بعمق شاعري في الآفاق المفتوحة والخطيرة، لذلك كانت المقاربات متنوعة (كما ناقشت مع المتوجين) والجدلية عندي كما حكمتني في تفكيري/ رؤيتي هي أن ما بعد التراث وتجاوز التراث مرتبطان بالفهم الأعمق، والتجاوز هو نتاج الاستيعاب لا الاستبعاد والإسقاط والشطب، بل إنه التجريب الذي يقود بعد التيه إلى أعظم الاكتشافات، إلى أرفع الإبداعات.”
ويشدد الناقد على أن قوة الخيال تُحرج وثوقية العقل وعجرفته، وتفجر في سبيل الرشاقة القوالب الجاهزة التي تجعل من النقد ومقولاته شيئا كفساتين المناسبات جاهزة وبالأحجام.
ويضيف الرحاوي “التأكيد على الذات، الذات التي تنحو منحى التفكير المتواصل في نفسها وفي الآخر، الذات التي لا تنغلق على نفسها، ولا تذوب في الآخر، ضمن هذه الحدود وبشكل مبستر على الأقل الآن أحاول أن أُكَيِّف الفكرة مع الحدود المتاحة في هذا السياق، هو أن الإبداع بما يخلقه من رحابة، يجعل التفكير وإقران الحلم بالتفكير شيئا ضروريا من أجل رسم مسافات أخرى للحوار والإصغاء وممكنات الفهم، بحيث عندما تعود طاقة الفن قادرة على التحدث بعد الارتقاء بالذوق إلى مستوى رأب الصدع الذي شرخ العلاقة بين أركان الخطاب النقدي، الناقد والمبدع والقارئ، يصير ممكنا وقتئذ التصدي لكل أشكال التصحر واليأس والاغتراب والموت.”
ويتابع “بهذا الأفق، واعتبارا لمقترح ‘القراءة التحويلية’ الذي قدمته من داخل التفكير، يمكن التأسيس للاختلاف من خلال القراءة التي تبني علاقتنا بالآخرين من منطلقات المغايرة لا التطابق، بهذا التقريب المُخِل كانت المسرحية متن الاشتغال ‘تكنزا.. قصة تودة’ (لفرقة فوانيس ورزازات، إخراج أمين ناسور) المسرحية المتوجة في الدورة الـ14 ببغداد العراق بجائزة سلطان بن محمد القاسمي، تستجيب لما كان هاجسا من طبيعة لم أعرف كيف لي أن أبلورها وأني لست ممن يطمئنون للمناهج أنى كانت على أهميتها القصوى والبالغة.”
ويواصل “أعتقد أن المنهج الفعال يجعلنا نرى ما أبرزه المبدع بجلاء قيامي خفي، فأن نرى ليس بالشيء السهل لكن ما علينا نحن حتى لا يستقوي بعضنا على البعض بالاصطفاف أمام أو خلف العُدَد والمناهج هو أن نسمع لخفايا ما يتحدث هامسا، أن نسمع لما يتحدث ويكون المنهج أنّى كان عند الباب، مهما كان يقف عند الباب ما ينفلت من تعقيدات النظرية ويبقى خالصا ما يتسرب في الثقوب والفجوات ويظل سفرا بلا نهاية أو ادعاء. كما ألمع فاليري، ليس هناك معنى حقيقي للعمل الفني، فالعمل الفني معين لا ينضب من المعاني.”
المشهد النقدي
حول علاقة النقد بالعمل المسرحي على خشبة المسرح يرى الرحاوي أن الأذن هي رهان الفعل النقدي ومستقبله، أن نُدرب أنفسنا على النظر، فعلى الرغم من براعة المنطق التجاري في رفع سقف تأهب عيوننا وتورمها كغربان ميتة على وجوه جعلت من الكآبة واليأس سوطها الذي يُبعد كل إمكانية لتحليل صفحة الوجه/ الخشبة/ الحياة للأسارير والفرح المشع، الفرح الذي يتصاعد ويلمع يكون من نصيب كل أحد وبقسمة لا إجحاف فيها ولا إقصاء للجميع بكل سخاء ومودة.
ويشدد أنه على الخطاب النقدي أن يفجر كوامن الفن وأن يفتح آذاننا التي أصابها الصمم إلى الإنصات الشاعري والموحي لكل خفايا ما يتحدث في خفايا الأرض، في أعمق ما فينا، وفي الارتفاعات خارج الأبراج المهجورة التي تسكنها الأشباح لأولئك الذين يؤمنون فقط بالمال بدل الرب كما يقنص كارلوس زفون، وفقط من خلال الواجهات تكون الإعلانات الدعائية جيشا يقهر كل ما يكون وثيرا بكيفية بسيطة. كل ما يجعل من العمل المسرحي مُحولا لطاقة السلب إلى الإيجاب الذي يشعرنا بأنفسنا، بثرائنا الخاص، بالثقة كما يُناشدنا إمرسن، وبالطبع، دون نسيان نيتشه أي بمد الجسور التي وحدها أقدمنا هي التي ستصنع من ظلام الصالات والكواليس نُورنا الذي خبا بفعل “البؤس الجمالي” كما يذهب فيلسوف الدنمارك، كيركيغارد.
ويضيف “إنني ألمح بكيفية ما لطريقة يتزامن فيها النقد مع حركة الإبداع بكيفيات يكون فيها الخطاب النقدي بانيا لأشكال التوازن والاضطرابات، الذي من المفروض أن يكون مدى الفعل الإبداعي قد عارك فيه الغيلان والأشباح التي تتوعد من يقترب بالاحتراق واللعنة. إن الجمال يُنقذ وهو قلعتنا الأخيرة كما يحاول هيدغر الذي كان مخلصا ومتيقنا من أن لا شيء فوري يقي من فظاعة ما يحدث، إنه فقط يمكننا، وهذا الذي يجعل من الناسك في محاريب المسرح يزرع في شكنا السؤال، بلمحة فريدة ومعتبرة، أليس المسرح معبرا؟ يتساءل غروتفسكي، بلى، معبرا لكل ما هو كامن وخافٍ في كياننا، إنه طريقة لأجل الحياة، وتلك الحياة التي سننتزعها إذا مر طيف الشاعر مرة أخرى، من مخلب المستحيل.”
ويؤكد الرحاوي أن هناك أزمة نقد مسرحي على الرغم من كثرة الكتب النقدية، لكنها أزمتنا نحن على كل حال، ونحن من الواجب علينا تجاوز كل ما يقف أمامنا حائلا. لكن كيف، إنه بالجنون والتخطي، فقط. إنها الشجاعة من أجل النفاذ والغوص إلى مستوى عرافي الحقيقة ممن يحترقون بفنهم ويكون صوتهم واضحا وسط كرنفال الضجيج الفني، النقاد كانوا يوصفون بمعلمي القراءة وعلى النقد أن يتعلم الأبجدية ليخلق لغة بديلة، لغة تتعطر بالعرق والصدق على الخشبة، خشبة المسرح والحياة.
◙ للتصدي لكل أشكال التصحر واليأس والاغتراب والموت يجب إصلاح العلاقة بين أركان الخطاب النقدي؛ الناقد والمبدع والقارئ
ويرى أننا اليوم لسنا محكومين بالرؤية الواضحة بل بالزهو بعدد التواقيع التي استنزفت خشب الغابة هدرا وبلا نتيجة، إن ثمة من يشتغلون ويحترقون بلوعة السؤال، وهؤلاء كما يقول نيتشه لا يدّخرون جهدا في بلورة تصورات وتقديم رؤى من أجل الإسهام في تجلية الغموض الذي يكتنف الوجود، وهؤلاء كتبهم تتحدث عنهم، أما الآخرون فلأن كتبهم صمّاء، إنهم يملأون الساحة صراخا وثرثرة جوفاء، يسبون الشياطين والأشباح.
وعن رؤيته للمشهد المسرحي العربي، وأبرز ملامحه الإيجابية والأخرى السلبية يقول “لأن التفاؤل هو ما يجب أن يملأ رئتنا بهواء الصباحات الثملة حتى وإن كان الواقع مُيئسا ومترديا. لكن الفن الحقيقي، والإبداع الحقيقي الذي يُوحّد ويُحرج المستحيل، بإمكانه دائما أن يتوج الإيجابية والاقتدار، أي من يناضل بكل سخاء، الوقت، السلامة والعمر، من أجل تواصل الرسالة من جيل إلى جيل، وفي هذه الديمومة المطبوعة بالطفرات والإبدالات المخلخلة والعاصفة لا شك أن ما كان يبدو محالا يصبح ممكنا، الممكن الذي يوحد العربي مع حلمه الذي أطبق عليه الخوف واليأس. كل ذلك الذي يكون منجما لكل فرح النخل الذي يضرب في خيال الصحاري وسحرها عندما نتألم وتكون السماء كلها في كف يدنا هبة خفيضة على صحراء الألغاز نتخير منها نحن ما نعشق، ما نريد نحن من ألمع النجوم وأعمق ما يوجد ويدور في الخفاء من كواكب. سنتخطى بقفزات وسيكون المشهد حلما لكل عربي، لكل إنسان، لكل الناس في كل الأرض.”
أما عن المشهد المسرحي في المغرب والمتابعة النقدية له فيوضح “في المغرب، وليس هذا بدافع الانتماء بكامل الكيان إلى عبقرية البلد وتاريخه، لكنه ما يلامس الأوتار الخيالية لكل ما يأفل ويشرق في المغرب، ويلمع، كل الأشياء التي تدعو للوحدة والتسامي، كل ما يكون ممتلكا لفنه ويمارس دوره بكل الجاذبية والأناقة التي تلزم ويجب أن تكون لإبداعاتنا، ما تكون عليه. في المغرب بقدر ما تبصم عليه التجارب على تعددها من تنوع يأتي الخطاب النقدي نفسه شيئا عابرا للحدود، وغائصا في الكيان، وراقصا على تخوم الخطر.”
ويضيف “إن كان لي التفصيل في الاختيارات والمنطلقات الفكرية والجمالية للمتعدد بتعبير السوسيولوجي عبدالكبير الخطيبي فذلك وحده لكل تجربة ما يجعل من الحديث عنها يستدعي وقتا وحيزا أوسع. فإن كنت في تكويني (ولن أتعوذ من الشيطان فقط لأن ضمير المتكلم يعود علي) نتاج الجامعة، أي مدين للكثير مما أنا عليه على بساطته لفكر دكاترة حرسوا السؤال بكل التفاني والإصرار، فإن الإبداع نفسه والتفكير النقدي والفاعلية الإبداعية عامة بات لها إسناد مؤسسي لا بأس به يرعى كل ما يُدمج بطريقة طبيعية لا ما يكون ملحقا تحت الإكراه وبالقسر دون وجود الإطار الإبستيمولوجي الذي يبرر ويجعل من وجوده مكسبا.”