القفز إلى المستقبل دون تسوية الماضي لن يجدي نفعا

في الجزائر لا طائر يغرد خارج سرب السلطة، لكن تلك المواقف والمشاعر الناقمة على فرنسا لا يمكن نزعها من الجزائريين فقط لأن التاريخ مازال مظلوما والحقيقة مازالت مغيبة.
الجمعة 2022/10/14
وجه ضحوك اليوم وعبوس غدا

غلبت النوايا الحسنة على العقود الاقتصادية والتجارية، فرغم كثرتها إلا أنها لم ترق إلى مستوى الدوائر المتحمسة في كل من الجزائر وباريس، ومع ذلك فإنه لأول مرة في تاريخ علاقات البلدين تظهر مؤشرات على طي صفحة الماضي والتوجه إلى المستقبل، فقد أبرزت قيادتا البلدين مساعي لأجل الوصول إلى علاقات جزائرية – فرنسية متحررة من إرث الماضي.

وفيما تسود حالة من التفاؤل حول مستقبل تلك العلاقات، وتبادل المجاملات بين مسؤولي البلدين، فإن التوجس يبقى قائما استنادا إلى تجارب سابقة؛ فقد سبق لنفس العلاقات أن كانت سمنا على عسل في زمن الرئيسين الراحلين عبدالعزيز بوتفليقة وجاك شيراك، لكن سرعان ما عاد إليها التوتر.

وحتى في ظل القيادتين الحاليتين لم يكن الأمر كما يعتقد المتفائلون؛ فالرئيس إيمانويل ماكرون نفسه كان من المتأخرين في تهنئة عبدالمجيد تبون عندما انتخب رئيسا للجزائر في نهاية عام 2019، ونفس الرئيس فجر أزمة بين البلدين في عام 2021، ودخلت العلاقات آنذاك في نفق مسدود قبل أن يتم تدارك الأمر من طرف الرجلين.

◙ تسود الآن المجاملات والتناغم، لأن المصالح المحققة آنية وظرفية بين النظامين الحاكمين، بينما تحتاج المصالحة الحقيقية بين البلدين إلى نقاش أفقي واتفاق ندي

ولئن استجدت متغيرات عديدة على المشهد الإقليمي والدولي، وعززت حتمية التقارب بين الطرفين، فإن إكراهات أزمة الطاقة والمواد الأساسية، والصراع الغربي – الروسي في أوكرانيا، وموجة الغضب المتصاعد في أفريقيا ضد التواجد الفرنسي، مقابل السعي لتحقيق مكاسب سياسية واكتساب حلفاء موضع ثقة يدعمون السلطة ما دام هاجس الشرعية الشعبية قائما، لا يمكنها إلغاء تراكمات وألغام الماضي.

صحيح أن الرئيسين اتفقا على الذهاب إلى مقاربة ترجح كفة المستقبل والتحرر من تركة الماضي، إلا أن التجارب التي تراكمت بين البلدين تبقي الأبواب مواربة أمام أي لغم قد يعيد كل شيء إلى مربع الصفر، خاصة وأن التسوية التي يراد الذهاب إليها هي تسوية بين نظامين سياسيين ولا تنسحب على الجبهات الأفقية؛ ذلك أن وضع ماكرون السياسي في باريس يتشابه إلى حد ما مع وضع تبون، فالأول لم يعد السجاد الأحمر مفروشا أمام قراراته بسبب زحف اليسار واليمين المتطرف إلى البرلمان، والثاني مازال يبحث عن شرعية شعبية، بعد انتخابات لم يصوت له فيها سوى خمسة ملايين جزائري من ضمن 24 مليونا مسجلين في اللوائح الانتخابية.

هذا الوضع يعرّض أي تسوية هشة للإجهاض بمجرد أي تحرك معارض، فرغم حاجة الطرفين إلى خطوات التقارب إلا أن الشك والريبة يبقيان قائمين بسبب نمط التسوية نفسها، وما اتفق عليه يبقى في خانة النوايا، وما يخطط له في الـ11 اتفاقا يحتاج إلى رأي الإرادة الشعبية، وإلا كانت كغيرها من المشاريع القسرية الملحقة بالهيمنة الاستعمارية الموروثة من حرب التحرير.

وتبقى العلاقات الجزائرية – الفرنسية من النماذج الاستثنائية في العالم، فهي تروم تحويل أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم، وهي مفارقة تحتاج إلى مقاربة سياسية ونخب حاكمة ومجتمع مدني، يقلب الصفحة بعد توضيبها وترتيبها وتأطيرها وليس تمزيقها أو إتلافها.

في العالم وفي فرنسا تحديدا عدة تجارب مماثلة تمت تسويتها وإرساء علاقات مستقبلية على أنقاضها كما هو الشأن في ألمانيا، لكن في الحالة الجزائرية رغم مرور ستة عقود على الاستقلال الوطني مازال الحال في شد وجذب وتجاذب، الأمر الذي أفرز وضعا دبلوماسيا متذبذبا، قد يبدو الآن من الماضي، لكنه ليس بعيدا عن أن يعود مع أي منعرج.

◙ فيما تسود حالة من التفاؤل حول مستقبل تلك العلاقات، وتبادل المجاملات بين مسؤولي البلدين، فإن التوجس يبقى قائما استنادا إلى تجارب سابقة

وتسود الآن المجاملات والتناغم، لأن المصالح المحققة آنية وظرفية بين النظامين الحاكمين، بينما تحتاج المصالحة الحقيقية بين البلدين إلى نقاش أفقي واتفاق ندي وشفاف يحفظ لكل طرف حقوقه كاملة ويزكيه الشعبان، لأن المسألة هي تسوية ماض دام قرنا وثلث القرن، وبعد ذلك يمكن التفكير أو الذهاب إلى المصالحة وتحقيق التعاون بمختلف أشكاله وفروعه.

سيغادر إيمانويل ماكرون قصر الإليزيه بعد سنوات قليلة، وعبدالمجيد تبون لا أحد يدري إن كان سيمر إلى ولاية ثانية أم أن موازين القوى لها رأي آخر، وفي أحسن الأحوال سيغادر قصر المرادية بعد عامين من مغادرة نظيره الفرنسي لقصر الإليزيه، وستواجه العلاقات الجزائرية – الفرنسية مصيرها الغامض لأنها لم تجد النخب الجريئة في العاصمتين لوضعها في مسارها الصحيح.

أفكار اليمين المتطرف واضحة وصريحة، وحتى اليسار لا يملك الشجاعة أكثر من ماكرون، وفي الجزائر لا طائر يغرد خارج سرب السلطة، لكن تلك المواقف والمشاعر الناقمة على فرنسا لا يمكن نزعها من الجزائريين فقط لأن التاريخ مازال مظلوما والحقيقة مازالت مغيبة.

في منتصف القرن الماضي أعاب سياسيون على فرنسا سياستها التمييزية والاستغلالية التي انتهجتها إزاء الأهالي واعتبروها سبب النقمة التي ولدت الثورة، وقد يكون نفس الخطأ مستمرا حول الموقف من الماضي، فمجرد موقف جاد من فرنسا بإمكانه إنهاء الحواجز النفسية المصطفة، واستعادة ثقة شريك وتحقيق تعاون كبير معه، وما عدا ذلك فهو وجه ضحوك اليوم وعبوس غدا.

9