"القطعان" مأساة مثيرة تتحول إلى كوميديا سوداء في الدار البيضاء

إطلالة سينمائية على تضارب القيم والمصالح داخل المجتمعات.
الاثنين 2023/09/25
صراع الهوية والبقاء

في أول تجاربه الفيلمية، يتعمق المخرج كمال لزرق في تركيبة المجتمع المغربي، عبر رواية تركز على الهوية وصراع الإنسان من أجل البقاء ومدى صمود المبدأ في مواجهة الأزمات التي تهدد أمن الإنسان، ويكشف بعدسته العقد التي يعاني منها أفراد المجتمع.

يواجه المخرج كمال لزرق في أول أعماله السينمائية "القطعان" تحديًا بسرد جريمة قصيرة ومباشرة تجمع بين اليأس الاجتماعي والضمير الروحي القائم رغمًا عنه. ويظهر لنا أن عصابة الاقتصاد الجيجي تستطيع تنفيذ أي تعليمات مروعة من أجل كسب النقود بسرعة، ولكنها ملتزمة بقوانين وعادات الإسلام بالقدر نفسه رغم أنها تتجاهل بترف الاختلاف بين هاتين السلطتين.

هذه القصة تكشف عن تضارب القيم والمصالح في مجتمع معقد، حيث يتعين على الشخصيات أن تحدث توازنًا بين الحفاظ على هويتها والبقاء على قيد الحياة في عالم مليء بالتحديات والمخاطر. وتتبع قصة الفيلم ثنائي الأب والابن اللذين يجدان نفسيهما في مأزق إجرامي روتيني يتحول إلى مأساة دامية، بسرد سريع يتم تقديمه في ظل جو من عدم الراحة واليأس.

تدور أحداث هذه القصة على مدار ليلة واحدة مليئة بالفوضى في الدار البيضاء. ويقدم المخرج كمال لزرق خلالها قصة جريمة تجمع بين الأب وابنه بأسلوب جدي، لكنها تقف عند الحد الذي يمكن أن تصل إليه في سياق السخرية والضجيج الذي كان يمكن أن تكون عليه. ويشير السيناريو إلى تغيير متصاعد في مسار الفيلم نحو الكوميديا السوداء دون التزام كامل بها، مما يترك الشخصيات والدراما الفيلمية في حالة من الارتباك. ورغم ذلك يظل هذا العمل أحد الأفلام القوية التي تعكس بمهارة وثقة العالم الجنائي اليومي، وتقدم إحساسًا حادًا بالبيئة المليئة بضوء الشوارع.

فيلم "القطعان" تم إنتاجه بالتعاون بين عدة دول، من بينها المغرب وفرنسا وبلجيكا وقطر والمملكة العربية السعودية
◙ فيلم "القطعان" تم إنتاجه بالتعاون بين عدة دول، من بينها المغرب وفرنسا وبلجيكا وقطر والمملكة العربية السعودية

تمتاز أداءات الممثلين بجاذبيتها وعفويتها، حيث استخدم المخرج لزرق ومدير الكاستينغ أمين لوديني وجوهًا غير محترفة لأداء معظم الأدوار، منها البطل الزعيم عبداللطيف مسطوري الذي يتميز بملامحه الحادة وتعبيراته العصبية، كان سابقًا بائع طعام في الشارع عندما تم اختياره لأداء دور حسان، وهو رجل في منتصف العمر يعاني البطالة ويحاول الموازنة بين ضميره الأخلاقي والمشاركة في أعمال قذرة لعصابات الجريمة المحلية.

في هذا السياق يتعامل حسان مع ديب (عبدالله لبكيري)، وهو زعيم في مجال قتال الكلاب يجب عليه تسوية حساباته بعد معركة كلاب شرسة أدت إلى موت كلبه الثمين. وتتنوع الشخصيات وتتميز بتعبيراتها الفريدة، مما يضيف عمقًا إلى القصة ويجذب اهتمام الجمهور. وتم تجنيد حسان من قبل ديب لاختطاف مالك الكلب المنافس وتسليمه إليه، ثم قام حسان بمكالمة ابنه عصام، الذي يُعرف أيضًا بلقب "أيوب العيد"، لمساعدته على إنجاز هذه المهمة.

عصام هو شاب ذكي وحذر، يفهم الأمور في الشارع بشكل أفضل من والده الذي يُظهر تأثرًا أكبر. وعلى الرغم من تردده، إلا أنه ملزم بالولاء العائلي ومضطر إلى مرافقة والده في هذه المهمة. بدأت شكوك عصام تتزايد عندما ظهرت السيارة التي يجب أن يستخدموها في المهمة بلون أحمر، وهو لون يعتبر بالنسبة إليه سيء الحظ. أصر على ذلك وبدأ يشعر بأن هناك شيئًا غير معتاد يحدث، وأثناء تنفيذ المهمة استخدم الثنائي العديد من وسائل العنف أكثر مما كان ضروريًا. وعندما توفي الرجل الذي قاموا بخطفه بسرعة في صندوق السيارة، وجدوا أنفسهم في موقف صعب يجب عليهم معالجته بعناية.

الأحداث التالية، التي اتسمت بوُجود اللون الأحمر بأشكال متعددة، بدأت تشير إلى أن شكوك عصام قد تكون مبررة، وفي هذه المدينة المعقدة حيث حتى الأماكن الخربة تشهد صراعات من أجل النفوذ، أصبح من الصعب العثور على مكان مناسب وسري لنقل الضحية، كما أن ظهور الشرطة وحصول مشاكل مع عصابات أخرى أديا إلى تعقيد المهمة أكثر. لكن العقبة الأكثر إثارة للاهتمام كانت تلك المتعلقة بواجب حسن دفن الضحية، حيث أصر حسان على أن يتم غسل وتكفين الجثة وفقًا للتقاليد الإسلامية قبل التخلص منها، هذه اللمسة النقية في وسط هذا العالم المليء بالفساد تجعل الأمور تبدو غريبة وكوميدية في بعض الحالات، كما تصل محاولة فاشلة لدفن الجثة في البحر إلى درجة من الهلع الحقيقي والفوضى.

◙ أداءات الممثلين تتميز بجاذبيتها وعفويتها، حيث استخدم المخرج مدير الكاستينغ وجوهًا غير محترفة لأداء معظم الأدوار

وتتنوع هذه الأجواء بشكل دائم، حيث يتم جذبها دائمًا نحو حالة مفترضة من التوتر والظلام. يظهر هذا بجلاء في التفاعل البارد والعصبي بين الشخصيات الرئيسية وفي التصوير المشوش بشكل مرعب للكاميرا، إذ تتراوح الأضواء بين السطوع والظلام بشكل متقطع وتتم إضاءتها بإشارات ضعيفة من قبل المصور أمين بيرادا، هذا المصور الذي كان أيضًا مفيدا في فيلم "بانيل وأداما"، ويبرز ملامح الممثلين من خلال أمواج الظلام المحيطة بهم ويسلط عليهم الضوء بألوان مشبعة من اللحم والدم بشكل متقطع قبل أن يختفوا من جديد في الظلام.

وتجدر الإشارة إلى أن فيلم "القطعان" تم إنتاجه بالتعاون بين عدة دول، من بينها المغرب وفرنسا وبلجيكا وقطر والمملكة العربية السعودية، وتم تقديمه من قبل بارني بالتعاون مع مونت فلوري، وحققت مبيعاته نجاحا في باريس. وكان المنتج الرئيسي لهذا العمل هو سعيد حميش بن لربي، وشارك في الإنتاج أيضًا ديانا الباوم ودافيد راجونيج كمنتجين مشاركين.

وتمت كتابة سيناريو الفيلم وإخراجه من قبل كمال لزرق، والتصوير السينمائي تم عن طريق أمين بيرادا وهيلويز بيلوكيه وستيفان ميكزكوفسكي، أما الموسيقى التصويرية للفيلم فتمت على يد "بي. آر 2 بي". ويضم مجموعة من الممثلين المميزين، بمن في ذلك أيوب العيد وعبداللطيف مسطوري ومحمد حميمصة وعبدالله البكيري ولحسن زيموزن وصلاح بن صالح ومحمد خربوشي. كما أن الحوار في الفيلم باللغة العربية ويتميز بقوة وعمق.

◙ تضارب القيم والمصالح في مجتمع معقد
◙ تضارب القيم والمصالح في مجتمع معقد

14