القصص تختلف باختلاف قارئها

تبقى للقصص الخيالية والحكايات قدرة ساحرة على اجتذاب الناس من مختلف الشرائح، وبينما يظن الكثيرون أن سر نجاح هذه القصص هو الهروب مع الواقع فإن حقيقة الأمر أبعد من ذلك بكثير، وهذا ما يوضحه بدقة الكتاب للروائي وأستاذ علم النفس المعرفي بجامعة تورونتو في كندا كيث أوتلي.
كيف هو تأثير القصص الخيالية على عقل القارئ؟ وما مدى إمكانية لعبها دورا في اكتشاف ذاته ورؤية ملامح وأبعاد فكره؟ هل يتماهى مع بعض شخصياتها وأحداثها؟ هل تغير أسلوب حياته وعلاقاته داخل محيطه الاجتماعي؟ وماذا عن المؤلف وعوالمه الخيالية ومدى قدرته على نسجها جماليا وفنيا؟ أسئلة يناقشها الكتاب للروائي وأستاذ علم النفس المعرفي بجامعة تورونتو في كندا كيث أوتلي، متناولا طريقة تأثير القصص الخيالية في عقول القراء والجماهير والمؤلفين وأدمغتهم، ومناقشا كيف ننسج -من محض كلمات أو صور- خبرات من قصص ممتعة، وأحيانا عميقة.
في كتابه “كما الأحلام، علم النفس في القصص الخيالية” يستعرض أوتلي، إلى جانب الموضوعات التقليدية، أربعة مباحث أساسية؛ هي: الشخصية، والفعل، والحدث، والشعور. أما الأساليب الفنية فيتناول منها الاستعارة والمجاز والتغريب والتلميحات، وأما ما يخص المحتوى التقليدي فينصب تركيزه على الحوار والأساليب التي يقدم بها الناس أنفسهم بعضهم لبعض. ويطبق ذلك على أعمال روائية وقصصية وشعرية.
القصص إيحائية
وفقا لأوتلي تعتمد فكرة الكتاب، الذي ترجمته آيات عفيفي وراجعه جلال الدين عزالدين وصدر عن مؤسسة هنداوي، على فكرة سبق أن طرحها ويليام شكسبير وصامويل تايلور كولريدج وروبرت لويس ستيفنسون وغيرهم؛ مفادها أن القصص الخيالية ليست مجرد جزء من الحياة، ولا هي محض ترفيه، ولا مجرد هروب من الواقع اليومي، فهي تشمل كل ذلك في أغلب الأحيان، ولكنها -في جوهرها- حلم موجّه، ونموذج نبنيه -نحن القراء والمشاهدين- بمشاركة الكاتب، ليمكننا هذا النموذج من رؤية الآخرين ورؤية أنفسنا رؤية أوضح. ويمكن للحلم أن يقدم لنا لمحات مما هو مستتر تحت سطح الحياة اليومية.
ويرى أوتلي أن كل قصة خيالية هي نموذج للعالم، ولكن ليس للعالم بأسره؛ فهي تركز على نيات البشر وخططهم، ولهذا السبب تمتلك بنية سردية من الأفعال والحوادث التي تقع نتيجة تلك الأفعال، وتحكي عن تقلبات حيواتنا، وعن المشاعر التي تخالجنا، وعن أنفسنا وعلاقاتنا في خضم مساعينا الحياتية. فنحن البشر اجتماعيون حتى النّخاع، ودائما ما تكون محاولاتنا لفهم أنفسنا وفهم الآخرين ناقصة؛ بسبب تداخل دوافعنا في الكثير من الأحيان، وصعوبة معرفة الآخرين. والقصص الخيالية وسيلة لزيادة فهمنا.
ويكشف أن مجموعات بحثية عدّة انخرطت على مدار الأعوام العشرين السابقة تقريبا في محاولة لاستكشاف تأثير القصص الخيالية على العقل، وسبب استمتاع الناس بقراءة الروايات ومشاهدة الأفلام. وبالتزامن مع ذلك بدأت أبحاث تصوير الدماغ تظهر كيفية تعبير الدماغ عن المشاعر والأفعال والتفكير في الآخرين الذين يقرأ المرء عنهم في تلك القصص. وقد بدأنا في المجموعة البحثية التي أعمل بها نبيّن الطريقة التي يحدث بها التّماهي مع الشخصيات الخيالية، وكيف يستطيع الفن الأدبي تحسين القدرات الاجتماعية، وتحريك مشاعرنا، والدفع نحو إحداث تغييرات في الذات، وبإمكانكم الاطلاع على الآراء والمراجعات والأبحاث، وغير ذلك مما تجريه مجموعتنا على مجلتنا، على الإنترنت، المتخصّصة في علم نفس القصص الخيالية، واسمها “أون فيكشن”.
يقول “الحلم استعارة مناسبة لوصف القصص الخيالية؛ لأنه أمر عرفه أغلبنا، ونعلم أن الأحلام تختلف عن العالم العادي على نحو أو آخر، ونعلم أيضا أنها من صنعنا. فهي ليست انطباعا مباشرا عن العالم، كما أنها ليست خالية من المعنى. ظهرت بدايات المفهوم الذي تبنّاه شكسبير عن الحلم في العصور الوسطى، حين كانت الرمزية مبدأ أساسيّا من مبادئ الأدب، وهذه ترجمة لأبيات ترجع إلى العصور الوسطى، كتبت باللاتينية، وتصف عناصر النص الأربعة: ينبئ الحرفي بما حدث، والرمزي بما يعتقد، والأخلاقي بما ينبغي فعله، أما الرّوحي فيهدي السبيل.
شرح دانتي هذه الفكرة في “الوليمة”. يقدّم الحب بين الرجل والمرأة في أشعار دانتي باعتباره رمزا لحبّ الإله لخلقه، ونستطيع، من خلاله، أن نفهم جزءا يسيرا من حبّ الإله لنا، نحن مخلوقاته، استنادا إلى خبرتنا المحدودة بالحبّ البشريّ في العالم المعتاد.
ويرى أن مفهوم الحلم لدى شكسبير تشابه مع مفهوم الرمزية في العصور الوسطى، الذي لا بد أنه كان يعرفه. ولكن بينما كان مفهوم الرمزية يستخدم في العصور الوسطى تماما كما استخدمه دانتي، من أجل إيجاد نسق تأمّلي للرمزية الدينية والأخلاقية، توجّه شكسبير، في مفهومه، نحو استكشاف الظلّ – الجوهر، الأمر الذي يؤدي إلى إدراك حقيقة الآخرين وحقيقة الذات في عالمنا هذا.
وإذا أردنا الحديث عن مفهوم الحلم من المنظور اللغوي، نقول مثلا “الاستعارة بالمعنى العام” أو “الاستعارة الممتدة”، أو يمكن استخدام لفظ شاع استخدامه في النظريات الأدبية وهو “التخيّل”. ويمكننا تتبّع الفكرة بدءا من عنصر صنع العالم في المحاكاة، مرورا بمفهوم الرمزية في العصور الوسطى، وصولا إلى مفهوم الحلم لدى شكسبير، وحتى وقتنا الحالي. أما علماء النفس فيستخدمون استعارتين دلاليتين للتعبير عن هذه الوظيفة، وهما “النموذج” و”المحاكاة”.
وقد استخدمت بالفعل فكرة النموذج، ولكنّ المحاكاة أكثر تطورا منها. أما القصص فهي أشكال من المحاكاة لا تطبّق على الكمبيوترات ولكن في العقول. والمحاكاة استعارة مناسبة؛ لأنها تشير ضمنا إلى تكوّنها من أجزاء، قد نعلم كيف يعمل كل جزء، في الأمور المعقّدة، ولكننا قد نحتاج إلى وسيلة مثل المحاكاة لمساعدتنا على رؤية كيف تعمل تلك الأجزاء مجتمعة.
ما الدليل على أن الأشخاص العاديين يتفاعلون تفاعلا إبداعيّا مع أعمال القصص الخيالية التي يقرأونها؟ يشير أوتلي إلى أن أحد الأدلة الأولى موجود في كتاب آي إيه ريتشاردز “النقد التطبيقي”، الذي يدور حول ما يفهمه الناس من الأدب. أعد ريتشاردز الدراسة حينما كان يدرّس الأدب الإنجليزي، وكان يعطي طلابه الجامعيين قصيدة قصيرة كل أسبوع، ويطلب منهم أن يقرأوها ويعلّقوا بحرّية على ما فهموه منها كتابة، وكان يخفي عن طلابه شخصيات الكتّاب، كما كان حريصا على ألا يؤثّر عليهم بخصوص القصائد قبل أن يكتبوا تعقيباتهم عليها، وبعد أن يجمع تعليقات الطلاب، كان يحاضرهم في الأسبوع التالي عن القصيدة وتعليقاتهم عليها.
كرّر ريتشاردز هذا الإجراء مع 13 قصيدة، وكتب أن الطلاب الذين كان يعلّمهم -وهم من خيرة طلاب اللغة الإنجليزية في جامعة كامبريدج وبعض الجامعات الأخرى- كشفوا عن “تشكيلة مدهشة من ردود الأفعال الإنسانية”، وبدا أن أغلبهم لم يفهموا معاني القصائد التي أعطاها لهم. وقد تكون النتيجة التي توصّل إليها ريتشاردز من خلال دراسته هي أن تلك القصائد (وغيرها من أصناف الأعمال الأدبية) حمّالة أوجه لقرائها المختلفين، وأنه على عكس الكتابات العلمية التي تكدّ في السعي للتوصّل إلى معنى واحد متفق عليه، فإن القصص الخيالية إيحائية بطبْعها، لها دلالات تختلف لدى كل شخص يسمعها أو يقرأها، بل وتحمل معاني مختلفة للشخص الواحد عند قراءتها في مناسبات مختلفة.
ويلفت إلى أن رولان بارت كتب تعليقا على رواية بلزاك “ساراسين” يفترض أن الرواية تحمل خمسة أنظمة مختلفة للمعنى في نصها، ويوضّح هذه الأنظمة كما يلي: الأول التأويلي؛ وهو سبيل القارئ لحلّ ألغاز النص. الثاني التجريدي؛ وهو نظام توحي فيه الأشياء بكيانات تجريدية. الثالث التداعوي؛ وهو نظام الأحداث وتسلسلات ما يتبع ماذا. الرابع الرمزي؛ وهو النظام الذي تقرأ من خلاله نقاط الغموض في نص. الخامس الثقافي؛ وهو النظام الذي يشير من خلاله النصّ إلى معان مشتركة في إطار ثقافة معينة.
يستطيع قارئ ما الاستعانة -مثلا- بالنظام الأول لمتابعة ألغاز النص، وبعض النصوص -مثل القصص البوليسية- تدعونا إلى هذا تحديدا، أو قد يتبع قارئ ما النظام الثالث من أجل تتبّع الأحداث وتأثيراتها، منتبها إلى الحبكة؛ للتنبؤ بما يمكن أن يحدث لاحقا، وقد يتبع بعض القراء أحد هذه الأنظمة في وقت ما، ويتبعون آخر في وقت لاحق، ويتبعون اثنين معا في وقت ثالث، وهكذا. وفي المرة القادمة التي يقرأ فيها أحد القراء النص نفسه، قد تتبع هذه الأنظمة ولكن بترتيب مختلف وبطرق مختلفة.
ويفترض بارت أنه بالإضافة إلى ما يسمّيه القراءات من وجهة نظر القارئ (تلقي النصوص تلقيا سلبيا نوعا ما) توجد قراءات من وجهة نظر الكاتب، وفيها يكتب القارئ (أو يعيد كتابة) ما يقرأه، وهنا أود أن أطرح اقتراحا أقوى، وهو أننا حتى في أكثر القراءات سلبية نكتب نسختنا الخاصة مما نقرأ.
إدراكات القصة
عكس الكتابات العلمية التي تكدّ في السعي للتوصّل إلى معنى واحد متفق عليه، القصص الخيالية إيحائية بطبْعها
يعتقد أوتلي أن أنواعا من الأدب تميل إلى تقييد القراء بمجموعة محدودة من التأويلات والخبرات، ويفكر في هذه الأنواع على أنها أفعوانيات في ديزني لاند. حدد مصممو ديزني مجموعة معينة من الخبرات التي تمر بها، سواء بجسدك وهو يتأرجح حول الأركان ويندفع إلى الأسفل في المنحدرات الحادة، أو بإدراكك للمناظر والأصوات. هذا هو ما تفعله أنواع معينة من جنس القصص الخيالية أيضا؛ فهي تأخذك إلى جولة محددة بعناية. ومثال ذلك أعمال الإثارة الشائقة التي تقوم على تعريف القارئ أولا بشخصية جذّابة هي شخصية البطل، ثم تتعرض هذه الشخصية -بل ربما العالم بأكمله- إلى خطر داهم. تقلب الصفحات بلهفة وقلق حتى يصل البطل والعالم وأنت معهم إلى برّ الأمان أخيرا.
وتقدم هذه القصص للقارئ ما يتوقّعه منها بدرجة كبيرة، ويمكن أن تكون ممتعة، ومثلها مثل لحظة النزول عن الأفعوانية، على الرغم من أنك قد تتذكّر ركوبك فيها، وتتذكر ارتجاف قلبك في لحظة معينة، فإن مخططاتك وذاتك تظلان كما هما دون تغيير، ولكن في القصص الخيالية الأكثر تعقيدا لا يحدث كل شيء فيها كالمتوقّع، وفي قراءاتنا من وجهات نظر الكتّاب قد تتغيّر مخططاتنا. وكما يقول عالم النفس المعرفي جيروم برونر في كتابه “عقول حقيقية وعوالم محتملة”: “أعتقد أن الهدية التي يقدمها الكاتب ‘العظيم’ إلى قارئ ما هي أن يجعله كاتبا أفضل”.
ويؤكد أوتلي أن إدراكات الناس للقصة الواحدة تحتوي على عناصر مشتركة؛ إذ يتفق الناس في العموم مثلا على أحداثها، إلا إذا كان المؤلف قد تعمد إضافة بعض نقاط الغموض إليها، لكنّ المعاني الشخصية التي يتوصل إليها كل شخص قد تختلف بعض الشيء. وحتى إذا كانت هذه القصة على هيئة فيلم يبدو كما لو كان قد اختصر خطوات لتخيل الشخصيات والأماكن، يظل على المشاهد تأدية دوره في تجميع لقطات الفيلم في إطار القصة التي ينشئها هو بإدراكه المتميز لها، قصة تستحث ذكرياته ومشاعره، وتوحي بأفكاره الخاصة. وثمة فرق بطبيعة الحال بين قراءة الرواية ومشاهدة النسخة المقتبسة منها على الشاشة، ولكن حتى في النسخة السينمائية من رواية “كبرياء وتحامل” لجين أوستن ينبغي عليك أيها المشاهد تكوين رؤيتك الخاصة للسيد بينيت وزوجته، بالطريقة نفسها تقريبا التي تتبعها إذا قرأت الكتاب؛ عليك مثلا أن تقرر ما إذا كانت إغاظة السيد بينيت لزوجته قاسية أم لاعبة؟ عليك أن تراه رجلا استسلم في زواجه لامرأة كانت يوما جميلة، أو ساخطا على كل ما تفعله؟
كما يتعيّن عليك أيها المشاهد للنسخة المعدّلة، وأنت أيها القارئ للرواية، تحديد ما إذا كانت السيدة بينيت ساذجة بالفعل، وعليك كذلك أن تقرّر شكل العلاقة بين السيدة بينيت وابنتها إليزابيث الذكية الفطنة المضطرّة رغم ذلك -مثلها مثل جميع بنات عصرها من الطبقة الوسطى- إلى عرض نفسها للزواج أمام الخطّاب المحتملين.