القصص الساخرة أدب العدسة المكبرة الذي يشرّح الواقع ويرافق الثورات

ازدهار الأدب الساخر علامة فارقة تميز الأدب الروسي في مواجهة الطغاة.
الثلاثاء 2023/07/18
السخرية تمسك بالتناقض وتجسده (لوحة للفنان أسعد فرزات)

تقلبات كثيرة عاشها الأدب الساخر الذي ظل منذ نشأته في صدام مع السلطة، ولعل الكتاب الساخرين أكثر من نال الملاحقات من السلط على اختلافها، دينية وسياسية واجتماعية وغيرها. وفي روسيا كان مسار هذا الأدب منذ مطلع القرن العشرين إلى يومنا هذا متقلبا بين الازدهار والتراجع.

الأدب الساخر فن له أصوله وقواعده الكتابية، فمن حيث المضمون يتسع الأدب الساخر لنقد أيّ موضوع من مواضيع الحياة العامة والخاصة، كالمواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، والسخرية فن شعبي، قريب من الجماهير، ومواضيعها من صميم حياتهم وهمومهم ومشكلاتهم وقضاياهم واهتماماتهم عامة، إنها سلاح الضعيف في مواجهة الطغاة والمستبدين والمنافقين والفاسدين سواء كانوا مواطنين عاديين أو مسؤولين داخل السلطة الحاكمة.

وهذه المجموعة التي قدم لها وترجمها عن الروسية نزار عيون السود بعنوان “القصة القصيرة الروسية الساخرة” وقسمها إلى قسمين يتتبعان القصة الساخرة في روسيا منذ أوائل القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تكشف عن جانب فني متميز ومهم من خصوصيات الإبداع القصصي الروسي.

القصة الساخرة

في مقدمة المجموعة، الصادرة عن دار المدى، ألقى عيون السود الضوء على الأدب الساخر عامة وفي القصة القصيرة الروسية خاصة، وقال إنه من حيث عناصره الفنية والشكلية يتميز الأدب الساخر بعدد من العناصر منها، أولا كسر ظاهرة اللفظ وتكثيفه باستخدام لغة غير تقليدية، مجازية، مزدوجة المعنى تبعث على الطرافة، بحيث تتحول الكلمة إلى حركة مع مراعاة السلاسة والوضوح. ثانيا القدرة على التخيل وطرح المغزى بين سطور الموضوع، بعيدا عن المباشرة في الطرح، والإلغاز المؤدي إلى إثارة تفكير القارئ وحدسه ودفعه لإدراك الكلمة بعيدا عن طرحها المباشر. ثالثا تضخيم العيوب وجوانب الضعف التي يسخر منها الكاتب بتهكم لاذع يتحاشى التهجم والتعرض للأشخاص بالسب والشتم أو القذف والقدح، وهذا يدخل في باب الاستهزاء وليس الأدب الساخر. رابعا استخدام النقائض والمفارقات والمتضادات، فقد نضحك من الألم حين يصل الجرح إلى أقصى مداه. خامسا بث عنصر التشويق باقتباس قصة خفيفة معروفة أو مثل شعبي أو بيت من الشعر.

◙ نزار عيون السود اختار في هذه المجموعة للمرحلة الأولى نماذج من أفضل القصص القصيرة الروسية الساخرة الفكاهية
نزار عيون السود اختار في هذه المجموعة للمرحلة الأولى نماذج من أفضل القصص القصيرة الروسية الساخرة الفكاهية

ويرى أن ثمة علامة فارقة تميز الآداب عامة والأدب الروسي خاصة، وهي ازدهار الأدب الساخر، أو ما يمكن أن ندعوه مجازا بـ”أدب العدسة المكبرة”، في المراحل الانتقالية الصعبة التي يمر بها هذا المجتمع أو ذاك. فمن الملاحظ في الآداب عامة، أن ازدهار السخرية والفكاهة، وانتشار التورية والعبارات القارصة والتلميحية والمبالغة، يتزامن أكثر ما يتزامن مع مراحل التحولات الثورية والتغيرات الاجتماعية الكبيرة، والانتقال من نظام اجتماعي ـ سياسي إلى نظام آخر. ولم يشذ الأدب الروسي عن هذه القاعدة.

وقد ازدهر الأدب الروسي الساخر، والقصة الروسية القصيرة الساخرة تحديدا، وانتشر انتشارا واسعا في السنوات العشر الأولى التي أعقبت ثورة أكتوبر عام 1917، وفي أعقاب “البيريسترويكا” وانهيار الاتحاد السوفياتي في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتعد هذه الفترات الزمنية من الفترات النادرة والفريدة في مجال الأدب الساخر، والقصة الروسية القصيرة الساخرة والانتقادية الفكاهية. ولعل أصدق دليل على ازدهار هذا الأدب الساخر، في المراحل المذكورة، صدور الأعداد الكبيرة من المجلات الساخرة والفكاهية فيها. ورغم انتشار الأدب الساخر في الأجناس الأدبية المختلفة (الرواية، المسرحية، القصة، القصة القصيرة.. إلخ) لكنه كان أكثر انتشارا وتركيزا في أدب القصة القصيرة.

ويوضح عيون السود “في المرة الأولى (العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين) اعتمد الأدب الروسي الساخر على تراث عريق غني، تمثل، من ناحية أولى، في الفولكلور الروسي والإبداع الشفوي الشعبي العريق، وفي التقاليد الأدبية الكلاسيكية الساخرة عميقة الجذور في الأدب الروسي والتي تجسدت على أروع وجه في أعمال ومؤلفات غوغول وسالتيكوف ـ شدرين وتشيخوف من ناحية ثانية. أما في المرحلة الثانية (الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين) فقد ارتكز الأدب الروسي الساخر إلى تراثه السابق والمنجزات الأدبية السوفياتية من ناحية وإلى منجزات الأدب العالمي الساخر الذي ترجم عن اللغات الأخرى إلى الروسية من ناحية أخرى”.

ويرى أن السخرية والفكاهة فن أصيل وأدب عريق التقاليد، عميق الجذور لدى جميع الشعوب. وقد حظي هذا الأدب الساخر بتقدير العديد من النقاد والفلاسفة والأدباء. ففي معالجته لهذا الموضوع، أشار هيجل في كتابه “علم المنطق” إلى أن “السخرية تمسك بالتناقض وتجسده. وتعبر عنه، وتقارن الظواهر المتناقضة، بعضها ببعض، وتوضح المفاهيم وتلقي الأضواء عليها من خلال تناقضاتها”.

◙ الكتاب يكشف عن جانب فني متميز ومهم من خصوصيات الإبداع القصصي الروسي
الكتاب يكشف عن جانب فني متميز ومهم من خصوصيات الإبداع القصصي الروسي

كما عبّر مكسيم غوركي عن تقديره للأدب الساخر، وبرز ككاتب ساخر رائع في قصصه الساخرة في مرحلة ما قبل الثورة مثل “مدينة الشيطان الأصفر” و”حكايات روسية”. وقدر الناقد الأدبي الروسي الكبير ميخائيل باختين الأدب الساخر تقديرا رفيعا، ورأى في الضحك “صيغة عظيمة الأهمية، قوية التأثير. فهو يقرّب الموضوع من القارئ بصورة غير عادية، ويزيل أيّ بعد أو مسافة تفصله عنه، سواء بسبب الخوف أو العظمة. إن الصورة الفنية الملتقطة للعالم من بعيد لا يمكنها أن تكون مضحكة. فالضحك هو المقدمة الأولى للواقعية. وشرطها الأساسي لأنه يجذب الموضوع إلى مجال المعاصرة والبيئة القريبة المحيطة، بحيث يمكن لمسه باليد وتجزئته والتغلغل إلى أعماقه وتحليله”.

يقول عيون السود “لقد كانت القصة القصيرة الساخرة والفكاهية المضحكة أهم جنس أدبي برز في العشرينات والثلاثينات ـ رغم التضييق والتهجم على الأدب الساخر في الثلاثينيات ـ وفي الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من القرن الحادي العشرين في ظل انتشار النزعات الجنسية والفوضوية والإباحية والسوريالية في أدب هذه الفترة في روسيا. فالقصة الساخرة الضاحكة هي تجسيد حي للأفكار والملاحظات الانتقادية والفكاهية الساخرة التي تعبر عن الصراع الاجتماعي”. ويضيف “وفيها يتألق رأي الكاتب وحكمه وموقفه، ومقاربته ونظرته واستنتاجه من خلال التناقض الذي يجسده بوساطة الشخصيات الهزلية الكوميدية، والطرق الأسلوبية الساخرة الخاصة، كالتلاعب بالألفاظ والجناس والطباق وازدواجية المعنى والنبرة الساخرة المقلدة، و‘العدسة المكبرة‘، والمبالغة وخلط العناصر الكلامية المتباينة، وما شابه ذلك”.

تقلبات الأدب الساخر

اختار عيون السود في هذه المجموعة للمرحلة الأولى نماذج من أفضل القصص القصيرة الروسية الساخرة الفكاهية، الأقرب إلى فهم القارئ العربي لأبرز الكتاب الروس الساخرين في العشرينات والثلاثينات وهم: ميخائيل زوشينكو، بوريس سمسونوف ليبيديف ـ كوماتش، ليف نيكولين، سيرغي زاياتسكي، ميخائيل كوزيروف، ميخائيل بولغاكوف، بانتيليمون رومانوف، إيلف وبيروف. وقدم لكل كاتب بموجز من سيرته وأشهر مؤلفاته، أتبعها بنماذج مختارة من قصصه القصيرة الساخرة.

أما بالنسبة إلى فترة الثمانينات والتسعينات وأوائل القرن الحادي والعشرين ـ القصة القصيرة الروسية الساخرة المعاصرة – فاختار مجموعة هامة ومعروفة من القصص القصيرة الساخرة لأفضل كتاب الأدب الروسي الساخر في هذه الفترة، ومنهم: ميخائيل جفانيتسكي، ميخائيل زادورنوف، سيميون آلتوف، فيكتور كوكليوشكين، غريغوري غرين، أركادي أركانوف، وغيرهم.

ويكشف أن ميخائيل زوشنكو تميز بنظرته الدقيقة وملاحظته الصائبة في كشف ملامح الشر. وتتميز قصصه الساخرة بالتفاصيل الدقيقة والموقف المركب بصورة منطقية لا تقبل الاعتراض، واللغة الفردية المتميزة لأبطاله وشخوصه. ويستشف القارئ في هذه القصص صوت الكاتب المفعم بالشك والقلق، لأنه أدرك أن التغييرات التي حصلت بعد الثورة قد اقتصرت، في الكثير من المجالات والجوانب على العبارات والأقوال والألفاظ الجديدة، دون أن تمس جوانب الفرد الروحية وأعماقه السيكولوجية.

وترك الكاتب الساخر فاسيلي ليبيديف ـ كوماتش بقصصه الساخرة الانتقادية العديدة، المنشورة في العشرينات، أثرا ملحوظا في الأدب الروسي الساخر في تلك الفترة. ويحتل الكاتب الساخر والمسرحي الشهير ميخائيل بولغاكوف مكانة خاصة في الأدب الروسي الساخر. لقد ارتكز في منهجه على تقاليد الأدب الروسي الكلاسيكي العريق، وبخاصة غوغول، وكشف بطريقته الخاصة عن الصدامات والنزاعات والتناقضات والسلبيات في العشرينات والثلاثينات في الحياة الروسية، وكشف الأمراض الاجتماعية معتمدا بصورة رئيسية على وسيلته المفضلة وهي أسلوب المبالغة. أما الكاتب ميخائيل كولتسوف فقد اعتمد في انتقاده اللاذع للفظاظة والأنانية على المقابلة بين الوقائع المتعارضة والمتناقضة.

القصة الساخرة الضاحكة هي تجسيد حي للأفكار والملاحظات الانتقادية والفكاهية الساخرة التي تعبر عن الصراع الاجتماعي

ويشير عيون السود إلى أن فترة الثلاثينات لم تكن مناسبة أبدا، من حيث الموقف السياسي الرسمي وتعاظم الدكتاتورية الستالينية لازدهار الأدب الساخر. فقد تم إغلاق القسم الأكبر من المجلات الأدبية الساخرة عام 1931 ولم يبق منها سوى مجلة واحدة “كروكوديل” (التمساح)، كما بدأ النقاد الرسميون الموالون للسلطة بالتشهير بالأدب الساخر والأدباء الساخرين، وعملوا على طمس أسمائهم وتلفيق الاتهامات المختلفة ضدهم، ومضايقتهم بشتى الوسائل. ولعل زوشنكو وبولغاكوف كانا أكثر من تعرض من الكتاب الساخرين للمضايقات، إلى أن توقفا نهائيا عن الكتابة.

 ولعل الكاتبين الشريكين إيلف وبتروف كانا الوحيدين تقريبا اللذين تابعا النشر والكتابة الأدبية الساخرة. حيث تمكنا بذكائهما وأسلوبهما الأدبي من الاستمرار في نشر القصص القصيرة الساخرة والضاحكة، التي كانا ينتقدان فيها الظواهر السلبية الاجتماعية المختلفة، كالبيروقراطية والانتهازية والنزعة الثورية المزيفة، بل وحتى بعض الأخطاء السياسية في التربية والتعليم.

 أما في فترة الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين فقد شهدت موقفا أيديولوجيا مغايرا من الأدب والثقافة، منفتحا على جميع الأجناس الأدبية ورفع الحظر عن جميع رجالات الأدب والثقافة، ارتبط بالتغيرات السياسية الجذرية التي حدثت في الاتحاد السوفياتي كالبيريسترويكا (إعادة البناء) التي رفعها ميخائيل غورباتشوف، ومن ثم أدت إلى سقوط نظام الحكم الشيوعي وانهيار الاتحاد السوفياتي، ونشوء مجتمع روسي رأسمالي أوليغارشي منفتح إلى أبعد الحدود، بل ومتحلل في الكثير من جوانبه، حيث انتشرت الاتجاهات الأدبية المختلفة والمتناقضة بما فيها النزعات الجنسية والفوضوية والسادية وغيرها. كما ازدهر الأدب الساخر ازدهارا كبيرا وبرزت أسماء هامة من الأدباء الساخرين مثل ميخائيل جفانيتسكي، ميخائيل زادورنوف، فيكتور كوكليو شكين، غريغوري غرين، أركادي أركانوف، سيمون آلتوف.

12