القراءة.. حتى في الجنة

إذا كانت الكتابة لدى البعض موسمية، يتحكم بها مزاج الطقس البارد أو الحار أو الظروف النفسية، فإن القراءة ليست موسمية في الأغلب الأعم، بل هي سليلة الفصول كلها.
الخميس 2019/03/07
القراءة الناجحة العميقة تستبطن أغوار الكتابة

ثمة أسئلة يكررها الصحافيون الهواة:ماذا تعني لك القراءة؟ لماذا تقرأ؟ ماذا بعد القراءة؟

ستتعدد الإجابات وتختلف بطبيعة الحال لكنها ستُجمع على ضرورة القراءة بوصفها مشروعا إنسانيا واسع الآفاق في الحياة. لا تتحدد بزمن ولا مكان ولا فئة عمرية ولا مساحة اجتماعية في العالم، مما يعني أنّ القراءة مشروع زمني مستقبلي ضامن للفرد والجماعة والدول والمجتمعات، وأنه نقطة الصفر التي يقف فيها الإنسان على بوابة الحياة العريضة بكل ما فيها من حضارة وعلم وفن وجمال لا يقف عند نقطة أخيرة.

 لذلك توصَف القراءة بأنها النهر الأول والأخير لعلاج الحياة والمرور عبرها إلى المستقبل، فالقراءة إيجاد زمن نفسي يواكب الحياة من زاويتها غير المرئية كثيرا؛ وبهذا المستوى هي اللحاق بالمنظور الحياتي المغلق في كثير من الأحيان ومحاولة الدخول إلى مفاصله وإنْ على نحو تقريبي، حينما نجد في القراءة وسيلة من وسائل الاتصال بالعالم والحياة والمجتمع والإنسان؛ فالقراءة متحركة بشكل كبير ولا تنتهي عند فكرة أو مشروع فلسفي أو اقتصادي أو سياسي أو علمي.

القراءة إعادة إنتاج صامتة للكتابة اعتدنا عليها في تلقينا الصامت، ونحن نبني جسورا كبيرة من الخيال الواصل بين الكتابة والقراءة، وما بينهما تتعاقب الكتب والمؤلفات والمؤلفون وصُنّاع الأثر الجمالي، لذلك فجزء من مواكبة المؤلف هو أن تثق به فتقرأ له وتستطلع المفاهيم الجديدة التي تتوفر عليها إمكانياته الذاتية في رصد معالم الحياة في فُسحتها الكبيرة الشاملة، وما القراءة إلا ذلك النقص الفادح الذي يترسب فينا ويتراكم بسبب استغراق العالم بالنظريات والفنون والآداب وجماليات الحياة المتعددة.

القراءة محاولة ممكنة للحفر الناعم في جبل الجهل وصولا إلى مشارف المعرفة والانغماس فيها. وثمة كتب معينة تكوّن بحد ذاتها مكتبة مثالية بتعبير الأرجنتيني مانغويل، ولأن القراءة فعلٌ أرضي عظيم نقل البشرية إلى النور المشرق لذلك يأمل بورخيس في أن تكون في الجنة مكتبة.. أي قراءة، فالجنة معرفة أيضا ولا بد من أنها تحوي كتبا ومجلدات للقراءة غير موجودة في العالم الأرضي المعقد. بما يعني أن المعرفة لا تنتهي حتى ما بعد الموت وأن فعل القراءة يظل قائما في العالَم الآخر. وهذا تأكيد مجازي عظيم للقراءة بوصفها عاملا مهما من عوامل التسلح بالجمال علما وأدبا.

على المستوى اللغوي ليس هناك أفضل من القراءة ككنز ثري للمفردات والجمال والخيال الآخر الذي يشحذ بريق اللغة ويحوّلها إلى أطياف شعرية وسردية وعلمية، وعلى المستوى الاجتماعي الوظيفي فالمتعلم أفضل من الجاهل وله أكثر من فرصة في الحياة. وفعل القراءة السماوي (إقرأ ..) إبهارٌ أولي في جدوى أن تكون قارئا تتقصى الحياة من كل مكان وتكتنز بالمعلومات، فالتجارب الاجتماعية ليست كافية أن تجعل الطريق أمامك مفتوحا ما لم تكن ثمة أنوار تفتح أمامك مجالات الحياة الكثيرة، وهذه الأنوار هي التي تتولد من فعل القراءة.

القراءة.. قراءات كما يصنّفها ذوو الاختصاص، فهناك قراءة لأجل القراءة. وهي متعة طارئة عادية. وأخرى سطحية لقتل الفراغ وأوقات الانتظارات، وثالثة عميقة بتعبير كيرمود لأنها (تحدث الأثر) والأثر هو فعل القراءة الناجحة العميقة التي تستبطن أغوار الكتابة وتلتقي بها وتُنتجها من جديد لذلك تكون القراءة العميقة بموازاة الكتابة العميقة التي تُحدث الصدمة، والصدمة اكتساب معرفة جديدة واستيعاب جمالي وإنتاج جديد يضفي على العالَم شريحة ضوئية نحن بأمس الحاجة لها.

إذا كانت الكتابة لدى البعض موسمية، يتحكم بها مزاج الطقس البارد أو الحار أو الظروف النفسية، فإن القراءة ليست موسمية في الأغلب الأعم، بل هي سليلة الفصول كلها.

14