"القافلة" برنامج تلفزيوني ليبي يتفاعل مع روح التراث بآليات العصر

البرنامج استطاع تجاوز مرحلة المحاكاة ودخل مرحلة التأسيس لشخصيته المستقلة بمقومات العمل المعبر عن اللحظة التاريخية بآليات تراثية.
الأحد 2024/04/07
تمسك بقيم الأصالة والتجذّر

طرابلس - تبقى المواد التراثية والبدوية من أهم الأغراض البرامجية للقنوات التلفزيونية الليبية بمختلف توجهاتها ومشاربها ومنطلقاتها الفكرية والسياسية ومرجعياتها الثقافية والاجتماعية، وقد تأكد هذا الاستنتاج خلال شهر رمضان الجاري من خلال أربعة برامج تبث على مائدة الإفطار، يتصدرها برنامج “القافلة” للشاعر الشعبي عزالدين الريش الذي نضجت تجربته وأصبحت جزءا لا يتجزأ من المشهد العام إلى جانب برنامج "النجع" للشاعر علي الكيلاني.

يقول الريش إن اسم “القافلة” جاء انطلاقا من طبيعة الفكرة التي تأسس عليها البرنامج، وهي التنقل بين المدن الليبية بطريقة القوافل، ثم إن القافلة تنطلق من مكانها وتعود إليه، وهي عادة ما تكون متوفرة على جميع الحاجيات الضرورية، وتحمل كل المعاني التي يسعى الشاعر إلى تصويرها والتعبير عنها وتبليغها إلى الجمهور الواسع. ويضيف الريش "حاولنا الابتعاد عن النجع قدر الإمكان، فكان هذا خيارنا، باعتبار أن النجع ثابت في مكانه والقافلة تخرج وتعود إليه"، مؤكدا على أنه ينتمي إلى مدرسة “النجع” التي تولى تأسيسها الشاعر علي الكيلاني منذ 36 عاما، وفي نفس الوقت لا يعتبر نفسه منافسا لها، وإنما هناك تكامل بين البرنامجين في الرؤية والموقف والهدف والآليات.

وفي مقابلة صحفية سابقة، كان الشاعر عزالدين الريش بيّن أن “الفكرة لم تكن في الأصل فكرة برنامج متكامل بل كانت عبارة عن مجموعة من الأغاني الوطنية، لا تتجاوز ست أغان بصوت الفنان خالد الزروق، وكان يتم تجهيزها للبث التلفزيوني أو حتى على يوتيوب، وأثناء التسجيل عرضت علينا إحدى القنوات الفضائية أن نسجل برنامجا تراثيا رمضانيا من 30 حلقة، إلا أننا اعتذرنا لتلك القناة بسبب توجها السياسي، وبعد تولّد الفكرة طرحتها على إدارة قناة ليبيا 24 وتم الترحيب بها وبدأنا في تنفيذ العمل بشكل طبيعي بعيدا عن كل ما يتردد في مواقع التواصل بأن البرنامج منافس لغيره من البرامج أو أن ليبيا 24 تضارب على غيرها من القنوات أو الأفراد”.

عزالدين الريش: حاولنا الابتعاد عن النجع قدر الإمكان  باعتبار أن النجع ثابت في مكانه والقافلة تخرج وتعود إليه
عزالدين الريش: حاولنا الابتعاد عن النجع قدر الإمكان  باعتبار أن النجع ثابت في مكانه والقافلة تخرج وتعود إليه

وانتقل بث “القافلة” من ليبيا 24 إلى “ليبيا الحدث”، ومنها إلى “ليبيا المسار”، وذلك نظرا إلى الترحيب الكبير الذي حظي به في المنطقة الشرقية، وإلى أهمية مبادرة سلطات وأهالي تلك المنطقة من تكريس لقيم المصالح الوطنية، بما جعل أنصار النظام السابق من مختلف أنحاء البلاد، وخاصة من المنطقة الغربية، يجدون الأمن والاستقرار والسكينة والاحترام الكامل في مدنها وقراها.

وعادة ما يؤمن أنصار النظام السابق بمقولة وردت بالفصل الثالث من الكتاب الأخضر تنص على أن “الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها وتراثها”، وكانت منطلقا خلال فترة الزعيم الراحل معمر القذافي للاهتمام بالثقافة الشعبية والتراث، وإلى ظهور الكثير من التجارب المتميزة كتجربة “الخيمة الغنائية” للفنان الكبير الراحل محمد حسن، وللأعمال التي جمعت بين مطرب الخيمة والشاعر الكبير عبدالله منصور مثل “الواحة” و”النجع” و”سيرة أولاد هلال”، وكذلك برنامج “النجع” التلفزيوني للشاعر علي الكيلاني الذي انطلق منذ العام 1988 كسلسلة رمضانية تحتوي كل حلقة منها على مقدمة نثرية تترجم المعاني الواردة في النص الغنائي المصاحب الذي عادة ما يهتم بالعادات والتقاليد والحرف والمقتنيات وخصوصيات حياة البدو ومشاعرهم وعلاقاتهم مع محيطهم ومع الإبل والخيل والفروسية وغيرها، ثم اتخذت بعد العام 2011 أبعادا سياسية واجتماعية من خلال الحلقات المخصصة للتعبير عن ولاءات القبائل العربية الليبية للنظام السابق وعن معاناة المهجرين والنازحين وعن آثار التدخلات الخارجية وغيرها.

من هناك، يقول الشاعر عزالدين ريش إن "علي الكيلاني بمثابة عمّي، وذلك للعلاقة التي تجمعني به وهي متوارثة من أبي وجدي، وهي علاقة خاصة جدا وهو مدرسة تعلمنا منها، ونحن منذ الصغر نستمع لأعماله في كل مكان، ولولا النجع لما كانت القافلة، والنجع يستمع إليه أكثر من 70 و80 في المئة من الليبيين وهو علامة مسجلة باسم علي الكيلاني، وأعتقد أن لديه أعدادا كبيرة من التلاميذ الذين سينتجون برامج أخرى تعتبر امتداد لتجربته، ويبقى من باب الفخر أن يكون علي الكيلاني مثالا يحتذى به”.

وكان الكيلاني قد سجلّ مئات الحلقات لمدة 36 عاما، بمشاركة العشرات من الفنانين الليبيين والعرب من أمثال محمد حسن وذكرى وسيف النصر ونوال غشام ونبيهة كراولي ورمضان كازوز وأشرف محفوظ وعمر عبدلات وهالة محمود ومريم السعفي وغيرهم، وكان برنامجه يحتل مكانة دائمة ومهمة على شاشة التلفزيون خلال شهر رمضان، وهو ما أصبح جزءا من إيقاعات شهر الصيام من الصعب التنازل عنه، وعندما اضطر إلى مغادرة البلاد بعد الإطاحة بالنظام في العام 2011، واختار القاهرة مقرا لإقامته، قرر أن يستأنف مهمته من خلال “النجع” وبث الحلقات على شاشة قناة “الجماهيرية” قبل أن يبادر بإطلاق قناة خاصة تحمل اسم البرنامج وتختص ببث حلقاته سواء الجديدة أو القديمة.

◙ بث "القافلة" انتقل من ليبيا 24 إلى "ليبيا الحدث" ومنها إلى "ليبيا المسار" نظرا إلى الترحيب الذي حظي به في المنطقة الشرقية

وظهرت خلال السنوات الماضية عدة برامج حاولت محاكاة “النجع” من حيث الشكل والمضامين الشعرية واللحنية من بينها “المرحول” للشاعر فيصل القصير، و”سهاري هلنا” للشاعر أحمد الصويعي، مع حضور متميز لبرنامج “القافلة”، الذي يقول صاحبه الشاعر عزالدين ريش “تقارب مع برنامج النجع وهو أمر طبيعي يعود إلى طبيعة البرنامجين حيث كلاهما يتغنى بنفس المعاني، ويتناول نفس الموضوعات، ونحن كشعراء أبناء نفس البيئة، فإن اللحن عندنا واحد، علاوة على استخدامنا لنفس الآلات الموسيقية، حيث استخدمنا التخت الشرقي بهدف الضغط على التكاليف وسرعة الإنجاز وهي نفس الآلات التي يتم بها تسجيل أعمال النجع، كما أن الجرح واحد، وبعض الأعمال لا يمكن أن تنفذ إلا بطريقة واحدة، ونحن تركنا ألحان الأعمال للفنانين، وبعض المطربين تعودوا على الغناء للنجع وحملوا نفس الألحان التي تعودوا على الأداء بها في النجع ” وفق تعبيره.

وتميزت أعمال الريش بالروح الوطنية الفياضة، وبالمضامين المتنوعة التي تدافع عن جملة قيم مهمة من بينها وحدة الدولة وسيادتها والوطنية الليبية والأصالة الثقافية والحضارية والمصالحة واحترام التاريخ وزعمائه الخالدين وأبطاله ورموزه والتذكير بسير الشهداء والمقاومين، وتخليد بطولات الجيش الوطني في حربه على الإرهاب والتطرف وتأمينه لثروات البلاد ومقدراتها، ومن أبرز حلقات رمضان الحالي حلقة عن درنة بعنوان “فزعة خوت”، جاءت بصوت الفنانة التونسية صفاء سعد تذكيرا بتضامن الليبيين بعد كارثة السيول التي غمرت المدينة في سبتمبر الماضي وأدت الى سقوط الآلاف من القتلى، وحلقة عن مدينة “بنغازي” وحالة الإعمار التي تشهدها في ظل الأمن والاستقرار، وكانت بصوت المطربة التونسية نوال غشام، وحلقة “الرصيفة” التي خصصها الشاعر للحديث عن مميزات قبيلته “ورفلة” وعاصمتها بني وليد مع امتداداتها في كامل الأراضي الليبية ودول الجوار، وقد أداها غناء الفنان رافع العكوكي، وصولا إلى حلقة “معاطف الكشمير” التي يقول طالعها “يا معاطف الكشمير عند السادة، جرد شيخنا غطّي عوار بلاده” وغناها الفنان رافع العكوكي وهي تتحدث عن مشهد مؤثر لشيخ ليبي من الطبقة الفقيرة المطحونة في بلد النفط والغاز يعرض ثوبه التقليدي (الجرد) للبيع ليتبرع بثمنه لضحايا كارثة درنة، وهو الذي لا يمتلك غيره، وقد كان ذلك المشهد كافيا لتعرية النخب السياسية وأهل المال والأعمال وشبكات الفساد التي نهبت ثروات البلاد في أيام الرخاء دون أن يكون لها موقف في لحظات الشدة.

ما يمكن التأكيد عليه، أن برنامج “القافلة” استطاع تجاوز مرحلة المحاكاة ودخل مرحلة التأسيس لشخصيته المستقلة بمقومات العمل المعبر عن اللحظة التاريخية بآليات تراثية قادرة على التقاط خصوصيات المرحلة والتعبير عنها بصورة واضحة وعقلانية وجامعة وواعية بدورها في تقريب المسافات بين أبناء الشعب الليبي، ويتأكد ذلك من أن صاحب البرنامج عزالدين الريش ورغم أنه شاعر لا يشق له غبار، إلا أنه فسح المجال في عدد من الحلقات لشعراء آخرين انطلاقا من أن تنوع الموارد وتعدد الأصوات يعني ثراء المضامين وتجددها بالشكل الذي يخرجها من دائرة الروتين والجمود، وخاصة في شهر رمضان الذي عادة ما يكون مجالا للمنافسة القوية ليس فقط بين المواد التلفزيونية، ولكن والأهم من ذلك، بين رؤى أصحابها وقدراتهم الإبداعية واتساع الآفاق لدى كلّ منهم.

2