القاص عبدالكريم ينينه: الحراك الجزائري عرّى فساد السلطة والشعب والمثقفين

كاتب جزائري يستنكر توجّه الكتاب العرب جميعا إلى الرواية في عصر متسارع ومزدحم.
الاثنين 2020/03/02
الرواية تتجه بالأدب نحو النهاية

جرب القاص الجزائري عبدالكريم ينينه الكتابة في الشعر والمسرح، غير أنه بقي وفيا لجنس القصة، وهو من القلائل الذين يحرصون على المداومة عليها في ظل الانتشار الواسع للرواية التي ينظر إلى “الهجمة عليها” بارتياح كما يقول في هذا اللقاء مع “العرب” الذي تطرقنا فيه إلى العديد من القضايا الثقافية والأدبية.

يكتب عبدالكريم ينينه بروح ساخرة ساخطة، ويحاول أن يتعمق في تفاصيل الحياة اليومية في الجزائر، وقد أصدر مجموعتين قصصيتين هما “قليل من الماء لكي لا أمشي حافيا” و”عبدالله البردان”، كما نشر كتابا في الشعر بعنوان “رقصة الحمإ المسنون”، إضافة إلى نص مسرحي “جلالة المتخم الثاني”.

كتب القاص عبدالكريم ينينه في المسرح والشعر غير أن وفاءه كما يقول لجنس القصة بشكل خاص هو الأساس.

الرواية ليست بريئة

يقول ينينه “أنا كاتب يحاول أن يبدع، وأن أكون مختلفا ولو قليلا، إن الأجناس الأدبية متداخلة في ما بينها، وكذلك الرواية التي تحاول أن تهيمن وتبتلع الأجناس الأخرى بشكل يتجه نحو نهاية الأدب، يمكن اعتبارها قصة طويلة جدا، أو هكذا كانت حقيقتها، فأسهب صاحبها في ذكر التفاصيل والأمكنة والفراغات وعدّد من شخوصها وأحداثها، ثم في الأخير استقلت بتقنياتها الخاصة، غير أنها لم تتخلص من روح القصة والحكي، هذا الأخير الذي صار أساسيا في بنائها، وما الحكي إلا القص نفسه”.

تجربة مختلفة في الكتابة المسرحية
تجربة مختلفة في الكتابة المسرحية

ويضيف “القصة كما الشعر، هي بضاعتنا، لذلك لها ارتباط عضوي بقضايانا الإنسانية وخصوصياتنا كشعوب عربية، وهي أخف حملا وأسرع تبليغا للمضمون، لذا تتحاشاها بعض أنظمتنا التي لا توفر مساحة كافية من الحرية لمواطنيها، وهذا ما يفسر التشجيع الذي تلقاه الرواية حاليا في الوطن العربي على حساب الشعر والقصة، ويمكن لرواجها في أميركا اللاتينية حيث عششت الدكتاتوريات الحديثة أن يكون مساهما في ذلك، ففي السبعينات والثمانينات لما تبنت أنظمتنا القضيةَ الفلسطينية وكان العدو على مرمى حجر كانت للشعر وللقصة مكانتهما الأولى في الاهتمام الرسمي المؤسساتي والشعبي، ولم تتقهقر مكانتهما إلا بعد معاهدة أوسلو، أو إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، والذي شاع باسم اتفاق السلام، وانخرطت فيه أغلب الأنظمة العربية تباعا، بعدها أريد للمبدع أن يتفرغ فقط لـ ‘زرع المحبة‘، وبهذا كان يجب على الأدب، كل الأدب، أن يتجه نحو الرواية”.

وفي رأيه إن “رواية بثلاثمئة صفحة مجهدة للقارئ الأفقي، وضمن مقروئية ضعيفة وكسولة، مضمونها موزع على صفحات كثيرة يصعب جمع شتاته لتداوله في الفضاءات الرقمية التي هي بمثابة إعلام تملكه وتسيطر عليه حاليا الجماهير، هذا إضافة إلى سحب هزيل لا يتجاوز خمسمئة نسخة إلا ما تعلق ببعض الأسماء الكبيرة، وتحفيزات للروائي لا علاقة لها بروح الكتابة، مثل ما نراه من جوائز هنا وهناك تحت شروط وثيمات لا تخرج عن سكة مرحلة ما بعد أوسلو الداعية إلى السلام المجاني، وهكذا تتعرض حاليا الكثير من قضايانا المصيرية إلى الإهمال من طرف تلك النصوص التي تعمق في كل مرة الهوة بينها وبين المتلقي العربي، رغم بعض المغريات البديلة، كتوظيف الجنس وغير ذلك”.

ويضيف الكاتب الجزائري في نفس السياق “لا أفهم لم اتجه العرب جميعا إلى الرواية؟ وتنطبق عليهم عبارة ‘عن بكرة أبيهم’ حتى صار الأمر أشبه بالثرثرة لا الكتابة، فالرواية لا تعدو أن تكون جنسا أدبيا مثله مثل الأجناس الأخرى، هذا حتى نبتعد عن العنصرية الأدبية، فلا يبقى مشهدنا الأدبي أعرج. إن الرواية الناجحة في الغرب تسير مع الصناعة السينمائية، وتقتبس للمسرح، وهي تصدر بآلاف النسخ وأحيانا بالملايين، وتقام لها اللقاءات والندوات في الجامعات وفي المكتبات العامة والخاصة، وفي حصص فكرية متلفزة، ويحتفى بها إشهاريا، حتى أنه يمكن لك أن ترى ملصقا لها على الزجاج الخلفي أو على جوانب حافلات النقل الحضري، ناهيك عن محطات الميترو وغيرها، وهكذا يفعلون مع الأجناس الأدبية الأخرى والفنون، أما عندنا فيحدث العكس تماما”.

ومع ذلك لا يعتقد القاص ينينه أن هذا الرأي الذي يوجهه إلى الراوية تقليل من شأنها بل يعتبرها من “أجمل ما أنتجه العقل البشري مع الشعر والقصة”، لكنه يشك في أن “إبعاد الشعر والقصة في بلادنا العربية جاء في سياق تحول طبيعي، بل القصة هي الأنسب لروح هذا العصر المتسارع والمقتضب الذي تسيطر عليه الرقمنة والاختزال”.

ويعتقد القاص ينينه أن “هذا العصر المتسارع المزدحم جعل القارئ لا يملك وقتا كافيا ليجلس إلى نصك الطويل، حدث هذا أيضا في الفن الغنائي مع أم كلثوم وجيل الأغنية الطويلة، ويحدث حاليا للأدب مع الأجيال الجديدة، فالقارئ يريد أخذ جرعته من المتعة في وقت قصير، ولهذا يجب أن يحوز الكاتب على قوة الاختزال وتطويع اللغة بالاعتماد على عناصر معينة لتبليغ الرسالة أو لتحقيق شرط الإمتاع ومن بينها شعرية اللغة والمفارقة، وهذا ما حاولت القيام به في المجموعة الأولى، وكذلك عنصر السخرية وذاك ما حاولت تجسيده في المجموعة الثانية”.

الثقافة في تراجع

يؤكد ينينه أن السبب الرئيسي لتراجع مكانة الثقافة هو المثقف نفسه، ويرى أن المثقف “لم يكن في السنوات العشرين الأخيرة، قوة اقتراح وطرح للبدائل بقدر ما كان يتحرك من أجل غايات ذاتية، ولا ننسى أن فترة الفساد التي مرت بها الجزائر مست الثقافة أولا باعتبارها المنطقة الهشة في كيان المجتمع الجزائري المليء بالتناقضات، وفي إطار الأجندة المذكورة تم القضاء على المثقف الإيجابي أو العضوي، وتم الإبقاء على مثقف المكاسب الذاتية الذي تتعامل معه الإدارة الثقافية بمنطق الجزرة، وهذا المثقف هو الذي أنتج بدوره في الساحة الإبداعية صنفا من الكتاب صائدي الجوائز الباحثين عن الشهرة، مثقف لا يرى إلا ذاته، ولا يملك رؤية تشاركية أو استراتيجية، لهذا بقي إنتاجنا باستثناءات قليلة حبيس المحلية”.

القصة هي الأنسب لروح هذا العصر المتسارع والمقتضب
القصة هي الأنسب لروح هذا العصر المتسارع والمقتضب

ويشير القاص إلى أن “انتشار ثقافتنا يبدأ أولا بالمرور على جغرافيتنا الحيوية، أي مغاربيا ثم عربيا، في حين كان يراد لها متوسطيا أولا، وهذا ما لا يمكن حاليا، ويعد مستحيلا. وقد لاحظنا إحدى الفعاليات الثقافية الشاذة التي استفاد منها مثقف المكاسب، كيف تمت في اتجاه واحد، ودامت سنة كاملة هي سنة 2003، أطلق عليها ‘سنة الجزائر في فرنسا‘ بحجة تعريف الفرنسيين بالثقافة الجزائرية، كأن هذا الفرنسي لم تكفه 132 سنة من الاحتلال ليعرفنا، ويمكن لنا أن نتصور الإمكانيات الكبيرة التي صرفت في سبيلها، لو تم استثمارها في تبادلات ثقافية بينية في اتجاه الوطن العربي لكان أفضل”.

فأنتربولوجيا يقول “تعد الجزائر سلة هائلة من ثقافات متعددة تعايشت منذ القدم فصارت الآن تكمل بعضها مشكلة فسيفساء جميلة ونادرة في الوطن العربي، ولا تنتظر إلا الاهتمام المؤسساتي الجاد والحقيقي الذي سيؤهل البلد مستقبلا ليكون منفتحا على السياحة وعلى ثقافات العالم، وتلك بوابة ممكنة لنقل ثقافتنا إلى الآخر”.

ويعترف القاص ينينه بأن الحراك لم يقدم له شيئا على المستوى الشخصي، أقصى ما فعله يقول إنه “عرى كثيرا من فسادنا شعبا وسلطة، ومن ثم وجب التغيير في الأعلى وفي الأسفل، لقد عشنا في بدايته حلما جميلا بنظام ديمقراطي حقيقي، ودولة تقوم في الأساس على مبدأي الحرية والعدالة دون اعتبارات أخرى غير اعتبار المواطنة، لكننا اكتشفنا أننا لا نزال نراوح مكاننا، وقد نجح نظام الفساد السابق في جعلنا على شاكلته، حتى أن النخب التي كان يفترض أن تقود الحراك فقدت بوصلتها وتقهقرت لتسير وراء شعارات جاهزة مجهولة المصدر، لتؤكد عجزها التقليدي وانفصالها عن الواقع، فما معنى أن تتبنى النخبة أو تقيم ندوات في الشارع لتثمين شعار ‘يروحو قاع‘ والذي يطالب برحيل الجميع دون استثناء، وهو شعار غير عقلاني، بل هو صدامي في الباطن ويناقض سلمية الحراك التي يدعون إلى الالتزام بها”.

15