القارئ المستقل
في النص الأدبي طبقات متعددة قابلة للتفسير والتأويل والقراءات النقدية المختلفة، ولا يخلو نص سردي من هذا التوصيف، لهذا ستحدد القراءة نوعيات القراءة المتعددة لدى القارئ بوصفه مستقبِلاً وباثّا كما تصرُّ نظريات القراءة على هذه الفكرة المركزية في مختلف طروحاتها النقدية؛ فالقارئ يملأ فجوات النص كما يقول آيزر وهي فجوات محتملة تختلف بطبيعتها من نص إلى نص اجتماعياً وأدبياً وجمالياً وفنياً، ومثل هذه الطبقات المتراكمة في النص السردي لا تخلو من المعاني الدالّة، وإنْ كان الناقد هرش يقول بأن النص له معنى واحد على اعتبار أن المؤلف وحده هو مصدر المعنى ولا ينبغي تشتيت النص بمعانٍ غير موجودة وتأويلات تتابع نظريات القراءة واستجابة القارئ لها، وسواء كان له معنى واحد أو عدة معانٍ فالقارئ الذي أُدخِلَ في هذه المتاهة لا وجود ضامن له كلياً؛ بمعنى ليس من السهولة إيجاد مثل هذا القارئ الحصيف الذي يعمل عمل المؤلف في تأويله وتفسيره وإناطته لمهمة النص بشكل شامل، وهذا القارئ الذي يشكّل الجمهور العام.
وهنا لنأخذ الجمهور السردي بشكل خاص؛ والذي يجاور النص ويحاوره ويستجلي سماته كما يريد منظرو الحداثة في نظريات التلقي والاستقبال، هو قارئ متشعب ومن ثقافات متعددة وأجواء لا تتشابه وفضاءات شرقية وغربية غير متفقة أساساً على أبسط البديهيات النقدية، فالشرق يترجم من الغرب ويفرضه كواقع حال على القراءة العامة، والشرق العربي غير قادر على استحداث نظرياته الجمالية كما يبدو بالرغم من سعة السرد الروائي في البلاد العربية، فمثل هذا القارئ الموصوف أعلاه هو غير مؤهل كلياً للإحاطة الكلية بمرامي النص أو معانيه، وحينما يستقتل منظرو الحداثة النقدية وما بعدها لتمثيل هذه الأجواء الخيالية للقراءة الفاحصة الدقيقة لإنتاج النص ثانية عبر الوسيط – القارئ هو أمر غير ممكن الحدوث حتى لو أخذنا برأي جيرار جينيت القائل إن القارئ يقرأ نفسه فإن الأمر لا يعدو سوى تزكية لجمالية النصوص بشكلها العام وإشراك القارئ في التلقي العمومي وليس التفصيلي، لذا نجد أن هناك من يرى أن العلاقة المتوقعة بين القارئ والقراءة هي علاقة أفقية أدبيا وجمالياً وعمودية اجتماعياً، ولكننا نرى وجوب إظهار القارئ المستقل الذي لا تعنيه النظريات المتقاطعة ولا آفاق النقد مترامية الأطراف ولا التأويلات المتراكمة التي تحمّل النص ما لا طاقة له به.
القارئ المستقل إذن هو الداخل إلى النص والخارج منه برؤية شخصية من دون أن يكون بديلاً لأحد أو ينوب عن المؤلف بتقديم طروحات جانبية لملء فجوات النص، ومن دون أن يكون ذا سلطة وهمية تزيد من طبقات النص تأويلاً ووهماً، فإذا وثقنا من قدرة المؤلف الجمالية والفنية ومع نصه ذي الطبقات المتراكبة قد لا نثق بقدرة القارئ على تحليل نصه وتأويل مضامينه وفتح طبقاته السفلى والعليا وإملائها، حتى القارئ السوبر والفائق لا يمكن أن يحل محل المؤلف الذي ينتج عالمه الواقعي أو الخيالي بطريقته الفريدة، ولا نعتقد أن القارئ المستقل سيعنيه مثل هذا الاقتحام غير المبرر لبناء شامخ، بقدر ما يعنيه كيف سيتطابق أو يفترق مع النص بالحسابات الجمالية والفنية المعتادة، وأن لا يكون المهيمن المستقبلي على النص، فهذا أمر مشكوك فيه، لأن النص الراقي -خيالياً وجمالياً- لا يمكن الضغط عليه بقراءة مسبقة قبل القراءة الطبيعية، لهذا يجب أن يُبتَعد به عن هذه الحافات غير المبررة لكي تُعاد قراءته دائماً في ضوء مستجدات نقدية ميتا جمالية تُعنى بشباب النص في كل مرة.
كاتب عراقي