الفيلم والهاجس السياسي

أصبحت الجرأة في النقد السياسي، أهم كثيرا من المستوى الفني للفيلم، وأصبح الاهتمام بالخطاب المباشر أكثر من الاهتمام بالطموح السينمائي الفني، فتشابهت الأفلام وانحصرت في الرسالة التي تركتها السلطة.
الأربعاء 2019/03/27
الفيلم السوري "اليازرلي" كان مصيره المنع

في عقد السبعينات طغت السينما السياسية، خاصة في إيطاليا وفرنسا، بل في الولايات المتحدة أيضا ومن داخل هوليوود. كان المد اليساري والليبرالي قد وصل إلى الساحل الغربي الأميركي نتيجة لانتفاضات الشباب الغاضب، من السوربون في باريس عام 1968 إلى الجامعات الأميركية المرموقة في 1971، وكانت حرب فيتنام عاملا أساسيا في هذا الحراك الشبابي السياسي.

وفي مصر وسوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب، ارتبطت الدعوة إلى “السينما الجديدة” بالحراك السياسي الكبير والمراجعة الشاملة التي بدأت في أعقاب الهزيمة الكبرى في 1967، وكان جيل من الشباب من دارسي السينما قد بدأ يبحث كيفية النهوض بالسينما كأداة ثقافية لكي تلعب دورها في معركة المقاومة والوعي.

وعندما تكوّنت جماعة السينما الجديدة في مصر عام 1968 كان أهم ما جاء في بيانها التأسيسي العبارات التالية “نحن نريد سينما مصرية تتعمق في فهم حركة المجتمع المصري وتحلل نمط العلاقات وتكشف عن معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات، ولكي تكون سينما مُعاصرة فلابد من أن تمتص خبرات السينما الجديدة على مستوى العالم كله، السينمائي المصري عليه أن يظلّ مُعاصرا، وعليه أن يحتضن كل ما يطرأ على مجتمعه من علاقات ويُعطيها الصيغة الدرامية المُلائمة، ويبحث في كل ما لديه من أدوات تعبير عن لغة سينمائية جديدة تعبر عن الأوضاع الجديدة”.

ترددت أصداء هذا “البيان” في العواصم العربية الأخرى، فظهرت رغبة مشتركة في أهمية أن تنهض السينما العربية وأن تخلق نماذجها الجديدة التي بلغت ذروتها في تجمع السينمائيين العرب في السبعينات في مهرجان قرطاج السينمائي، وفي مصر أقيم في عام 1971 مهرجان لسينما الشباب من خريجي معهد السينما أعقبه في دمشق مهرجان سينما الشباب عام 1972. لكن الدولة الرسمية سرعان ما أصابها الفزع مما يمكن أن ينتج من حراك من أمثال هذه التجمعات فجمدتها.

والمتأمل لطبيعة ونوع ومضمون الإنتاج السينمائي، يمكنه أن يلحظ أن غالبية الأفلام تضمنت أفكارا سياسية في سياق طموح، ويكفي أن نشير هنا إلى تجربة فيلم “اليازرلي” الذي أخرجه قيس الزبيدي في سوريا، وكان مصيره المنع حتى يومنا هذا، ثم “المخدوعون” الذي واجه مصيرا مماثلا!

وفي مصر أنتجت جماعة السينما الجديدة فيلمين سياسيين هما “أغنية على الممر” (وهو من أفلام الحماس الوطني) و”الظلال في الجانب الآخر” لغالب شعث الذي رأت السلطة أنه يوجه نقدا لا يمكنها تحمله لصورة المجتمع الذي أنتج الهزيمة، ولذلك منعت عرضه لعدة سنوات، أعقبه منع أفلام أخرى مثل “العصفور” ليوسف شاهين، و”التلاقي” لصبحي شفيق، وغيرهما.

هذا “الأرق السياسي” انعكس -ليس فقط على مضامين الأفلام- بل وعلى النقد السينمائي أيضا، فقد تأسست جمعية نقاد السينما المصريين عام 1972 أساسا من النقاد الذين كانوا يصدرون مجلة “الغاضبون” وكانت عبارة عن أربع صفحات داخل مجلة “الكواكب” وقت أن ترأس تحريرها رجاء النقاش، بقيادة الناقد فتحي فرج، كما ضمت شباب النقاد الذين ساهموا في إصدار مجلة “السينما والمسرح” ثم “السينما” اللتين لم يكتب لهما البقاء بالطبع.

سيتم بعد ذلك محاصرة السينما السياسية في مصر وسوريا والجزائر وغيرها، مع بقاء الهاجس السياسي بارزا في ما يكتب من نقد سينمائي في الصحف العربية عموما، مما ترك آثارا سلبية على مستقبل الفيلم العربي وتطوره، فقد أصبحت الجرأة في النقد السياسي، أهم كثيرا من المستوى الفني للفيلم، وأصبح الاهتمام بالخطاب المباشر أكثر من الاهتمام بالطموح السينمائي الفني، فتشابهت الأفلام وانحصرت في الرسالة التي تركتها السلطة تمر بغرض “التنفيس”، وصعد مخرجون متواضعو المستوى مثل خالد يوسف في مصر، إلى القمة بسبب تركيبة أفلامهم التي تحقق الإثارة والتحريض دون التمتع بالمستوى الفني، بل حاصر هوس النقد السياسي يوسف شاهين نفسه الذي جاءت أفلامه العشرة الأخيرة أقل كثيرا في مستواها من أفلامه السابقة، وهو موضوع آخر بالطبع.

16