الفيلم التونسي "قدحة: حياة ثانية" دراما مؤثرة من بحر الأحلام

من طيات الألم والأمل إلى أعماق البحر نتابع رحلة الصبي قدحة في "حياة ثانية"، حيث تتشابك قضايا الهجرة والهوية والتحولات الشخصية في عمل سينمائي تونسي يسلط الضوء على الجمال والألم - في آن واحد - في مواجهة الحياة. وهو ما شكّل نقطة تميز للفيلم ساهمت في استمرار نجاحاته الدولية.
يواصل فيلم “قدحة: حياة ثانية” للمخرج التونسي أنيس الأسود نجاحاته الدولية، إذ عرض مؤخرا ضمن فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان أوسترال السينمائي الدولي، من الثالث عشر إلى السابع عشر من ديسمبر الجاري في كوردوبا بالأرجنتين، كما شارك في مهرجان ابن جرير للسينما في المغرب، والذي نظم من الحادي والعشرين إلى الرابع والعشرين من الشهر الجاري.
تتناول أحداث فيلم “قدحة: حياة ثانية” قصة مأساوية في إطار درامي، حيث يتعرض الصغير قدحة لحادث سير، ويجد نفسه في مواجهة صعوبات مالية تمنع والدته من تأمين العلاج الضروري له، خاصة بعد هجرة والده غير النظامية إلى أوروبا. في ظل هذه الظروف الصعبة تتقابل الأم وابنها مع عائلة ثرية، وهنا يتغير مجرى حياتهما.
الفيلم من إخراج أنيس الأسود، ونص سينمائي مشترك بين أنيس الأسود وشيماء بن شعبان، تمثيل كل من جمال أروي وشيماء بن شعبان ومحمد زكريا شيبوب وياسين ترمسي ودرساف ورداتاني.
يتبع الفيلم قصة صبي يبلغ من العمر 12 عاما يُدعى قدحة، وهو اسم لقّبه به والده الذي غادر تونس إلى إيطاليا في رحلة بحرية خطيرة جمعته بالعديد من المهاجرين غير النظاميين، وهم يحاولون شق البحر لبلوغ أوروبا، كان هذا آخر ما سمعه قدحة من والده.
باستخدام لغة السينما والتصوير الفني نجح الفيلم في إيصال شعور الفقد والأمل والتميز بين العالمين الثقافيين، ومن خلال رؤية المخرج الجريئة والتمثيل المميز ترسم القصة تحولات جدية في الشخصية ورحلتها نحو فهم تلك التناقضات والبحث عن هويتها الحقيقية.
قصة مؤلمة
هذا الفيلم ليس مجرد دراما، بل هو أيضا عملٌ فني يلمس أوتارا عاطفية عميقة، ويجعل المشاهدين يفكرون في تأثير الهجرة والهوية على حياة الأفراد، إنه تحفة سينمائية تستحق الاعتراف بها على الساحة الدولية.
في عمق أفق البحر اللامتناهي، حيث تلتقي السماء بالماء في لوحة فنية تبهج العقول، كان البحر دائما يشكل مصدر شوق للصبي الصغير قدحة. كان يقضي أوقاتا طويلة على الشاطئ صحبة أصدقائه، حيث يجسدون أعمالا تافهة مثل سرقة اللحظات من الزمن واستفزاز الأمواج المارة.
وفي هذا الزمان الصعب، حيث لم تستطع والدته بوركانا تحمل تكاليف العلاج الضروري له، ظهرت يد المساعدة من عائلة كريمة تدعمهما ماديا، وتقدم لهما مأوى، كانا يشاركانها أيضا في محنتها، حيث كان ابنها يخضع إلى علاج معقد لمرض الكلية في المستشفى.
لكن مع مرور الأيام، بدأت الشكوك تتسلل ببطء إلى قلب الصبي، والارتياح يتلاشى تدريجيا. لا يمكن لقدحة أن يمحو الشعور الغريب بأن هناك شيئا خفيا وراء كل هذا اللطف الذي تلقاه من مضيفيه، وفي الوقت نفسه تنمو صداقة متينة بينه وبين ابن العائلة، الشاب أسامة، الذي يتعافى من عملية زرع الكلية.
لكن كانت المفاجأة الصادمة لاحقا، حيث كشفت الحقيقة المروعة أمام عينيه، تبين لقدحة أن والدته باعت كليتها الثمينة من أجل مستقبل أفضل للعائلة، هذا الألم الصامت دفعه بعيدا عن عائلته وصديقه، وألقاه في أحضان البحر، حيث تتلاقى الرموز، وتتصاعد الأحداث على نحو مأساوي.
لا تشكل هذه القصة مجرد أحداث متسلسلة، بل هي رسالة عميقة وفنية تجسد تأثير غياب الوالدين والقرارات الصعبة على حياة الأطفال. وتحمل مشاهد هذا الفيلم القوي الذي جاء بعنوان “حياة ثانية” رسالة إنسانية تعكس الأزمات التي يواجهها الكثيرون في جميع أنحاء العالم، الفيلم هو إسهام مميز في تاريخ السينما التونسية، وقد حقق نجاحا هائلا في مهرجانات السينما العالمية، ونال جوائز مهمة.
الفيلم يُقدِم هيكلا راسخا للقصة، ينتقل فيها بين التناقضات الرمزية المعقدة، وتبرز هذه التناقضات في جوانب متعددة، مثل الفرق بين العالم البسيط على الشاطئ والحياة الكئيبة والمعقدة في المدينة، والأسرار المخفية وراء اللطف الظاهر للعائلة الراقية.
هذه التناقضات تضفي عمقا على القصة، وتثريها، كما تسلط الضوء على تطور قوي لشخصياتها على مر الزمن. قدحة نفسه يخضع لتحول كبير، حيث يتحول من صبي يشعر بحنين إلى والده المفقود إلى شخص يواجه صدمة عميقة، بسبب خيانة والدته. هذا التطور يسلط الضوء على رحلته الشخصية، وعلى النُضْج الذي يحققه.
الإخراج والتمثيل
يظهر الفيلم تأثير هذه القضايا بشكل مؤثر على حياة الأفراد، وخاصة على حياة الأطفال، كما يُسلط الضوء على صور رمزية مميزة وأحداث مؤثرة، مثل المشهد المستوحى من صورة الصبي السوري الغارق في البحر، كل هذا يزيد عمق الفيلم، ويجعله يثير تفكير المشاهدين إلى حد بعيد حول المواضيع الشائكة التي يتناولها؛ الأطفال يصبحون شخصياتٍ محورية، ويظهر تأثير الأحداث فيهم بجلاء، مما يساعد على تعاطف المشاهدين معهم وفهم تجربتهم الصعبة، كما تحافظ الحبكة على تشويق المشاهدين من خلال تطورات درامية متنوعة طوال الفيلم، ويبرز أيضا مشاهد مؤثرة، مثل انهيار قدحة عندما يكتشف الحقيقة ولحظات الصدمة الناجمة عن الأحداث المأساوية، مما يزيد تأثيره العاطفي.
◙ باستخدام لغة السينما والتصوير الفني نجح الفيلم في إيصال شعور الفقد والأمل والتميز بين عالمين وثقافتين متباعدتين
تألق الإخراج في هذا الفيلم يتجلى على نحو متميز من خلال استخدامه الصور والإطارات البصرية بأسلوب يجمع بين الإطلالات الخلابة على الشاطئ واللقطات الحضرية المشحونة بالتوتر، وتم استغلال الألوان ببراعة فائقة لنقل المزاجيات والعواطف، مما أضفى على الفيلم طابعا خاصا وأثرا عميقا.
علاوة على ذلك تألق الأداء التمثيلي في الفيلم، ولاسيما من قبل الأطفال الصغار الذين أدوا أدوار الشخصيات الرئيسية. ويظهر أداء ياسين ترمسي في دور قدحة بعمق وصدق يلامس القلوب، مما أثرى تجربة المشاهدين، وأمكن لهم التعاطف مع شخصيته والتأثر بشعورها الصعب.
لا يمكن تجاهل مهارة المخرج في إخراج المشاهد الحساسة والمؤثرة على نحو استثنائي، إذ تكمن في تلك المشاهد قوة الفيلم السينمائية. فمثلا، مشهد انهيار قدحة عندما يكتشف الحقيقة يُظهر بتأثير وألم فائقين، مما يعزز عمق الفيلم، ويأسر قلوب المشاهدين.
يظهر من خلال هذا الفيلم أن المخرج أنيس الأسود يتقن فن التعامل مع القصص المعقدة والمؤثرة، توجيهه الفني الرائع وانتباهه لأدق التفاصيل، بالإضافة إلى أداء الممثلين الرائع، جميعها عناصر تجعل من “حياة ثانية” عملا سينمائيا قويا ومؤثرا يستحق التقدير والاعتراف.