الفوتورياليزم تيار فني يدمج الصورة واللوحة التشكيلية

ما بعد الحداثة تعتمد المفاهيم البصرية لتشكيل الصورة.
الأحد 2024/07/07
نوستالجيا تجمّل الواقع الحاضر

تجاوزت الصورة الفوتوغرافية وظيفتها الأولى التوثيقية، لتتجه أكثر نحو الجمالي والفني والفكري، وتشكل بالتالي مسارات فنية استمرت في التطور والتنوع، وصولا إلى درجة وعي مكثفة، سمحت للعديد من الفنانين الفوتوغرافيين بتقديم قراءات أخرى للواقع والأفكار والمشاعر.

رفضا للمثالية والتجريد، غالبا ما قام المصورون الواقعيون في ستينات القرن الماضي وسبعيناته بالولايات المتحدة بعرض الصورة الفوتوغرافية على لوحاتهم القماشية ليتمكنوا من إعادة تنفيذها حسب الفكرة والرؤية والخيال والواقع والمفهوم، حيث ركز الفنانون على التقاط البيئات والأشياء الواقعية التي تتميز بأسطح عاكسة وتفاصيل معمارية وملامح ذات تفاصيل حسية تطورت مع المواقف والواقع ودرجات التعبير المنتمي للمحيط حتى يتم تطويعها مفهوميا وتخرج في محتوى فني جديد وفق تقنيات مختلفة وعميقة.

تيار الفوتورياليزم

يعتبر الفنان الأميركي ريتشارد إيستس مؤسس حركة التصوير الواقعي، حيث اشتهر بلوحاته التي تُصور مشاهد مدينة نيويورك، والتي تتميز بتفاصيل مذهلة وأسطح لامعة وعاكسة، على الرغم من أنها تبدو وكأنها نسخ مباشرة من الصور الفوتوغرافية، إلا أن لوحات إستيس مصنوعة في الواقع من عدة صور، غالبا ما قام الفنان بنقل عناصر معينة من أجل تعزيز فكرته بتقديم تصور أفضل لعصر ما بعد الحرب في نيويورك.

وعرّف الرسام والمصور الأميركي تشاك كلوز بصوره الواقعية ومفاهيمه التي تبحث في ملامح الإنسان من خلال الصور العائلية، وقدمها بالتركيز على الصور الشخصية التي يقوم فيها بإعادة البناء من زوايا متعددة في عدة مربعات بين الأجيال يطرحها على القماش، ويمثل كل منها قسما خاصا بها في الصورة المرجعية، يستعرضها كنقاط ويعتبر أن “الوجه هو خريطة طريق لحياة شخص ما”.

أما الفنان رالف جوينج الذي اندمج في تصوير أسلوب حياة الطبقة العاملة، على الرغم من أنه بدأ مسيرته الفنية بتجربة الأسلوب التصويري للحركة التعبيرية التجريدية، إلا أنه سرعان ما انتقل إلى أسلوبه المميز الواقعية المفرطة في الصورة الفوتوغرافية، فقد صور الحياة الأميركية اليومية بتفاصيل دقيقة وواقعية للغاية خاصة في الحياة العمالية وتسارع نمط الحياة.

التطور الرقمي وحداثة التقنيات أثرا على الوعي والذائقة والتلقي والتعامل مع الفكرة البصرية في الصور المكثفة

فالتطور الرقمي وحداثة التقنيات كان لهما تأثيرهما البالغ على الوعي والذائقة والتلقي والتعامل مع الفكرة البصرية في الصور المكثفة التي باتت ميزة من ميزات الحياة اليومية المعاصرة لهذا التطور وتأثيره على الفنون.

لقد ساهم كل هذا التطوير التقني في الانتقال بالصور من كلاسيكيات جمالياتها إلى تطرفها التعبيري متحول القيم والمُبالغ في علاماته اللامتوقعة اللامألوفة، التي تحاول أن تتفوق على الواقع من الواقع نفسه حتى تقدم مواقفها ورؤاها من كل ما يدور حولها.

إنه تحول نحو المراحل المعاصرة ليلامس ما بعد الحداثة التعبيرية في الفنون البصرية والفوتوغرافية، مقتحما الواقع بالصور اللامعقولة في تعاملاتها المختلفة تشكيلا وصناعة.

وتعتبر الفوتوغرافيا بمراحلها نتاج تطور المشاهد واختلاف الذائقة واتساع أفق التجديد، وتحمل الغرائبية بفنتازيا الموجود والمنشود واللامعقول في التوافقات الفنية، ومن هذا المنطلق بدأت الفوتورياليزم أو الهايبررياليزم الواقعية المفرطة في الصور الفنية اقتحام مرحلة ما بعد الحداثة بمعاصراتها التقنية، وبالتالي كان التعبير والتواصل مع واقعية المشاهد مثيرا بغرائبياته المفاهيمية المستفزة حيث لم تقف عند تصورات آندي وارهول وما تثيره من تطويع إشهاري للصورة كما يعبر عنها الناقد الفرنسي هيكتور أولباك، بحيث اعتبر أن وارهول يشتغل على الإعلانات أكثر منه على الواقع الفني وبالتالي اعتبر أن الفوتورياليزم منحى تشكيلي متجدد الموقف الفني والبصري، يتناول الواقع حسيا وذهنيا باعتبارها خلقت اندماجا متكاملا بين اللوحة والصورة وتوافقا تقنيا بين الرسم والتصوير وبين الألوان الحقيقية والألوان المبرمجة والمعالجة تقنيا بين الموازين الضوئية والظلال، وهو ما يمثل تمردا طال الفنون في معاملاتها المتوازية كل من مداه التعبيري.

الصور خرجت نحو البحث عن غرابة اللقطة أو ندرة المشهد أو انتشال الواقع نحو جماليات مفرطة في الواقعية

لامس هذا التمرد كل التوجهات وخرج بطبيعة الصور نحو البحث عن غرابة اللقطة أو ندرة المشهد أو انتشال الواقع نحو جماليات مفرطة في الواقعية والانتماء للحاضر إلى درجة القبح والتطرف الجمالي في تكثيفاته الصادمة التي تحاول استفزاز حواس المتلقي بصريا، فتخلق فيها حالة ذهول ونفور أو انفصال عنها، لكنها في التناول المباشر للقطة مصورة وفي ترتيبها متناثرة وفق المفاهيم المقروءة ماورائيا تجريبيا تعبيريا أو وفق أنثروبولوجيا الصورة وماهيتها كما طرحها بدهشة فلسفية رولان بارت.

يثير ما أسلفناه إشكاليات مرحلية بحثت في دور الصورة الفوتوغرافية وتفاعلها التشكيلي في هذه المرحلة وتلاقيها مع الأساليب المعاصرة للفن وسيميائياتها في جوانب التفاعل الحسي والرؤيوي والرمزي والمفاهيمي والفهمي، خاصة وأن ما بعد الحداثة في الفن فرضت المواكبة والبحث من أجل تحديد المفهوم.

 فكيف انتقلت الصورة نحو واقعية مفرطة في مفاهيمها؟ وما مدى تعاطيها الواقعي وانفرادها الداخلي بعمق التعبير من خلال تجارب متنوعة عالميا فرضت تأثيرها عربيا؟ نذكر التجربة اللافتة للبريطاني دافيد هوكني الذي بالغ عبر ألوانه التشكيلية في انفتاحه على البصرية الخاصة بأساس الفوتوغرافيا بإفراط فني.

إن الاستفسار عن الفوتورياليزم يقود المتلقي نحو البحث في المنجز هل هو صورة فوتوغرافية تصميم كمبيوتر أو لوحة تشكيلية، وبالتالي تقع عليه تفاصيل القراءة البصرية بين الصورة واللوحة والتصميم ومن أين يبدأ المفهوم من الصورة أو من التصميم، فهي مراوغة تحليلية متداخلة في زواياها إلى درجة لا يمكن التفريق بين المُصور والمرسوم.

الصورة واللوحة

النضج التعبيري عن الفلسفة الوجودية
النضج التعبيري عن الفلسفة الوجودية

إن الفوتورياليزم (Photorealism) هو الأسلوب المعروف أيضا باسم هايبررياليزم أو الواقعية المفرطة (Hyperrealism) والسوبرياليزم (Superrealism)، وهو الأسلوب الفني الذي يشير إلى المنجز الذي يعتمد بشكل كبير على الصور الفوتوغرافية التي يتم توظيفها كصورة في عمل فني تشكيلي له علاماته ورموزه وخاماته المُكتملة، والتي غالبا ما يتم عرضها وفق أسلوب متداخل على مسنديات متنوعة، مثل القماش كمساحة تسمح بتكرار الصور وضرورات فنية لإيضاح أجزاء دون أخرى أو التصرف معها بدقة حسب متطلبات الفكرة ومفاهيمها.

بدأت الحركة في نفس المرحلة التي توغل فيها مسار التعبير المفاهيمي والأنماط المستحدثة في الفنون المبتكرة مثل البوب آرت، والمنيماليزم أو التقليلية (Minimalism) غير أنها اهتمت أكثر بالواقعية في الفن متجاوزة الأساليب المثالية والتجريد.

ركز هذا التيار الفني على الواقع والبيئة والحياة المعاصرة بتفاصيلها الباذخة والمؤلمة بالتفرقة الاجتماعية والاقتصادية وبالاختلافات الثقافية والفوارق الإنسانية، حيث تنقلت في التعبير عن الواقع عن المبالغة في الاستهلاك والصناعة والمدنية والبنى التحتية والآلات والسيارات والماركات والحياة المتنوعة ومتناقضاتها الواقعية، فخلق هذا التمشي الفني صخبا وتنوعا طال العديد من الأوجه التعبيرية، وكوّن ثقافة بصرية مثيرة لامست الحواس واستفزت الذهن ما ساعد هذا التيار على اجتذاب المتلقي الذي يتفاعل معها ويبحث في مفاهيمها، على عكس النقاد الذين تعاملوا معها كظاهرة عابرة لا تشبه الفن، ولكنها رغم النقد استمرت وساعدتها التقنيات على استمرار الرؤى وتكثيف الحضور الفهمي في مفاهيمية الصورة.

منذ بدء اعتماد الفوتوغرافيا في بدايات القرن التاسع عشر واستخدام الكاميرا كأداة لصناعة الصور لم يقدم المصورون رؤى عن كيفية اعتماد هذه الصور فنيا، لأنها كانت تُرى نقلا لمشاهد وملامح وتفاصيل توثقها للتذكر، في المقابل كان التطور الفني والاندماج مع النهضة الفكرية والفنية سببا لظهور تيارات فنية ارتكزت على الصورة مفاهيميا، ما خلق أسلوبا تعبيريا خاصا بها مهد ظهور الفوتورياليزم، التيار الفني الأبرز في دمج المفهوم البصري والصورة واللوحة التشكيلية، من خلال صناعة الفكرة في الصورة التي تكون الأساس.

وباعتماد كل التقنيات الحديثة تكثف الإنتاج والبحث وبالتالي توافقت الصورة مع الرؤى الجمالية بقيمها المعاصر، فصانعو الصور وفق الأسلوب التقني المفرط في الواقعية يبتعدون عن الرؤى الاعتيادية للطبيعة وما تراه العين مباشرة، فالتشويش والضباب والتعتيم على بعض الزوايا أو إخفاء الملامح أو زرع أشياء دخيلة عليها، والتلاعب بالمحتوى المألوف بواقعية بارزة، وإضافة مكملات ومؤثرات بصرية وحقيقية، يثير فكرة الاختلاف بين الواقعية والاصطناعية في المنجز من أجل خدمة المفهوم، كما أن تمثيل الضوء والتفاعل مع اللون يثير فضول العين والذهن، ما ينعكس على الأسطح ومن ثم الاندماج التقني مع التصوير الفني التشكيلي من خلال الألوان المضافة واعتماد الفرشاة والكولاج وصناعة الصورة بصياغتها بصريا.

المفاهيم البصرية

Thumbnail

في التجريب الغربي نلاحظ تجارب مثل تجربة الأميركي إيان إيفرارد، حيث كان التأثر الفني مبالغا في عتمة التوضيح والتلاعب الضوئي مع الفكرة من خلال الظلال والأضواء، فهو يحمل الصورة الجاهزة من عالمها وتاريخها ويوظفها في واقعها بمعالجة مفاهيمية تشكيلية تدمج الحواس، فيركبها معا ليخلق جدليات تحاكي الزمن وتثيره، في فضاءاته.

يتجنب إيفرارد الألوان خدمة للفكرة نفسها ليثير مشاعر المتلقي مع ذهنيته للبحث في عمق خياله عن منافذ مقروءة المضامين، فهو لا يكتفي بالنتيجة الأولى التي تنجزها الكاميرا بل يعالجها في عمق أفكاره ويتسلمها على محمل التوظيف التشكيلي، ليكوّن منها مقارنات تعبيرية، جامعا بين الواقع والخيال وفق رؤية حداثية تحول الصور الفوتوغرافية القديمة والبوسترات والمعلقات وأغلفة الكتب باختلاف أنواعها السياسية والاجتماعية والنفسية والتحليلية، إلى معنى له دلالة فكرية وفنيات جمالية تتلاعب بالأبعاد والمقاييس الأصلية والشخوص التي تتحول إلى عناصر مكملة للفكرة حيث تمنحها حركية وتفاعلا، وكأنها هي من يحاكي الزمن ويتحدث عن تفاصيله المتحولة والمتداخلة في نوستالجيا تجمل الواقع الحاضر، وهي مجموعة الأعمال التي قدمها عن لبنان إبان الحرب الأهلية، والتي توجد ضمن مجموعة متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية.

أما أسلوب مواطنه ألكس سيبرناي، الذي يعتبر من أوائل الفنانين الأميركيين الذين اعتمدوا هذا الأسلوب، فيتمثل في التصرف المبالغ في الصورة وتحويلها حسب المفهوم المتمرد على الواقع الاجتماعي بطرح القضايا الإنسانية في المجتمع الأميركي إذ بالغ في سرد مواقفه من العالم الاستهلاكي حيث يوافق بين الصورة واللوحة بالتصرف المتكامل لونا وأضواء حيث يقتحم الذهنيات الحسية الذاتية ليفجرها بعلامات قد تبدو وقحة وجريئة بحركياتها المثيرة من داخل الصورة ومن ثمة ينتشلها نحو اللوحة بأسلوب ساخر وكوميديا تحاول تسليط الضوء على المواقف المتنوعة التي يعايشها.

الفوتورياليزم يعتبر منحى تشكيليا متجدد الموقف الفني والبصري ويتناول عبر الصور من زاوية مفاهيمية الواقع حسيا وذهنيا

وتجربة ويل كلوغلي رائد الواقعية المفرطة التصويرية تحمل النضج التعبيري عن الفلسفة الوجودية التي دفعته للتجريب، انطلاقا من الواقع بحثا في الملامح وتدفقا في النفسيات المتوغلة في عمق ينعكس أفكارا تحررت من قيود أطرها وهنا يكمن الابتكار الداخلي للصورة مستخرجا إياها من سطحية المشهد نحو سردها بصريا بالنبش في فكرة الجسد كفلسفة ذات تعبيرات تستنطق الوجود باعتماد مزج تكامل بين الفكرة والصورة.

أما تجربة الكوري الجنوبي إيدي كولا فهي تجريب متنوع في معاصرته صاخب في مواقفه بين الجرافيتي والصورة والفيديو آرت والفوتورياليزم، تتداخل فيه الأساليب لتعبر عن الواقع المتناقض بصريا في التطرف الرؤيوي لكل الأحداث والمواقف، وفي التداخل البشري والعنصرية الموجعة في التداعي النفسي والخلل الانتمائي. إنه يحمل تعبيرا إنسانيا في تفاصيله يتعسف من خلال صوره على الأمكنة ويمارس العنف الجمالي بصخب التعبير.

أما التجارب العربية فقد تأثرت فلسفيا بالمفاهيم البصرية المعاصرة واعتمدتها لتنثر قيما بصرية جديدة الانتماء للبيئة والتراث والهوية الخاصة بالشرق العربي، فكانت مختلفة ومتنوعة في توافقها التعبيري بين الصورة والمفاهيم والمدى التعبيري عن القضايا، وهنا نذكر تجربة التونسي أمين بوصفارة والسورية علا عباس والسعودي فيصل سمرة والعراقي عادل عابدين.

إن هذا النمط الفني بتفاصيله الدقيقة خاضع للتطور والنضج والتفجر الفكري الذي سخّر التقنيات الحديثة وأخرجها من أطر الكاميرا وزواياها وحدودها إلى اللوحة واسعة المدى الأفقي في التبصر الفني بعلامات مبتكرة فرغم أن الأسلوب الفني للفوتورياليزم يعتبر وليد المرحلة إلا أن تطوره لامس انعكاس النضج وتفوق على التداخلات المكثفة للقيم التعبيرية وميز مراحل فنون ما بعد الحداثة.

11