الفن يعري ويكشف.. ويصفع أيضا

مسلسل "الفلوجة" الذي أثار كل هذا الحجم من الجدل نجح.. وضع التعليم في تونس بعد المسلسل لن يبقى على ما هو عليه.
الجمعة 2024/04/05
أي واقع للتعليم في تونس

أكثر من سبب دفعني طيلة 21 يوما إلى متابعة مسلسل “الفلوجة” التونسي، أهم هذه الأسباب اسم مخرجة العمل سوسن الجمني.

لن أتكلم كناقد يقيّم أداء الممثلين، الذين نجحوا في أداء أدوارهم، رغم حداثة عهدهم بالوقوف أمام الكاميرا. ولا بد هنا من إسناد الفضل لأصحابه، المخرجة سوسن الجمني.

رغم ارتباك السيناريو، أحيانا، ورغم الفواصل الإعلانية الطويلة التي تؤثر على متعة المشاهدة، حرصت على أن لا أفوت حلقة من حلقات المسلسل الـ21.

انقسمت الآراء في تقييم العمل، ولكن حرص غالبية التونسيين على متابعته، بمن فيهم من احتج على جرأة العمل ووصلت المغالاة بالبعض إلى أن اتهم العمل بالتشجيع على الممارسات المنحرفة.

قسم كبير من التونسيين آخذ على مخرجة المسلسل وعلى “الحوار التونسي” عدم الاهتمام بالقضايا الإيجابية، والتركيز على السلبيات في المجتمع.

نتفهم تماما غيرة هؤلاء على تونس، ونشاركهم الرأي بأن الظواهر التي تناولها المسلسل محدودة رغم انتشارها. ولكن متى كانت مهمة الفن الحديث عن الإيجابيات.

الفن يعري ويكشف ويصفع أيضا، وغالبا يلجأ إلى المبالغة والتضخيم لتسليط الضوء على المشكلة.

الجميع في تونس يتحدث عن مشاكل في التعليم، لماذا عندما سلط مسلسل الفلوجة الضوء على هذه المشاكل استنفرنا؟ غالبا السبب أننا لا نريد أن ننشر “الغسيل الوسخ”، عملا بالحديث إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا (هناك من يشكك في صحته).

بغض النظر عن صحة الحديث، من حق مرتكب المعصية أن يستتر على معصيته. أما الفنان، فعلى النقيض من ذلك، مطلوب منه أن لا يخفي حقيقة المرض عن مريضه مهما بدا ذلك قاسيا، وأن يشهر مبضعه ليستأصل المعصية.

مبضع الفنان هو عمله، ومبضع سوسن الجمني هو الفلوجة.

إن بدا السيناريو لنا، نحن الذين نشأنا على قوالب حولناها إلى شواهد نقيس عليها، مغرقا بالبساطة، إلا أنها بساطة خدمت العمل، وقربته من جيل جديد لم يعتد قراءة نجيب محفوظ وسهيل إدريس وتولستوي وتشيخوف.. جيل Z (الشباب الذين ولدوا من منتصف السبعينات ونشأوا في عصر التكنولوجيا المتقدمة) يرفض عبادة الأصنام. إنه جيل رقمي لم تصطبغ أصابعه بحبر المطابع.

الكبار ليسوا دائما أفضل من يعلم.. هذه أقوى رسالة أراد المسلسل إيصالها، ونجح في ذلك.

حرص صناع المسلسل على أن لا يمارس الكبار الأستاذية على أبنائهم؛ في العصر الرقمي وعصر الذكاء الاصطناعي، فالكبار اليوم آخر من يعلم.

وكانت لمسة ذكية من سامي الفهري التركيز على عرض حلقات المسلسل على منصة خاصة على الإنترنت، فهو يعلم أن الجيل الشاب الذي يخاطبه قد هجر التلفزيون.

الحلقة الأخيرة، بل الدقيقة الأخيرة من المسلسل، التي ظهر فيها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة متحدثا عن التعليم وأهميته، أثارت وستثير الكثير من الجدل.

وكأني بصناع المسلسل أرادوا أن يقولوا: في الليلة الظلماء يفتقد البدر. البدر هو بورقيبة الذي راهن على التعليم، وكسب الرهان.

استطاعت تونس أن تتجاوز الصعاب على مدى 13 عاما بفضل الكفاءات العلمية التي تعمل خلف الكواليس.

المسلسل الذي أثار كل هذا الحجم من الجدل نجح.. وضع التعليم في تونس بعد المسلسل لن يبقى على ما هو عليه قبل المسلسل.

18