الفن الانحطاطي يملي مطالب عدائية على المشاهد

كاميلي باليا: الرومانسية تتحول دائما إلى انحطاط.
الأربعاء 2024/12/25
الفن المنحط يضفي النظام على وحشية الطبيعة

كل جيل إنساني يأتي يثور بالضرورة على الجيل الذي قبله، هكذا تتحرك الطبيعة في الإنسان، ولا تشذ الفنون عن هذه القاعدة، ولكن هناك محاولات تنظيرية تحاول تجريد الفنون كافة من طبيعة ثورتها، وتأطيرها في مسارات محددة، وهذا ما انجر عنه صراع قوي بين مختلف التوجهات الإبداعية والرؤى الفنية ومازالت نتائجه غير محسومة.

شبه كاتب نيويورك تايمز هذا الكتاب “أقنعة جنسية.. الفن والانحطاط من نفرتيتي إلى إميلي ديكنسون” للباحثة النسوية كاميلي باليا بأنه عمل جريء يشبه حرب العصابات في مجال الدراسة والبحث، بقدرته على التهام كل شيء وهضم كل شيء، حيث يقدم نظرية متكاملة الأركان عن الثقافة الغربية الرفيعة والمتدنية، منذ أن اخترع المصريون الجمال، مقدما في ذلك حالة مقنعة لجميع أنواع الفنون كساحة وثنية للحرب بين الذكر والأنثى، الصورة والفوضى، الحضارة والطبيعة الشيطانية.

في كتابها، الذي ترجمه وقدم له ربيع وهبة وصدر عن دار التنوير، تتناول كاميلي باليا بالتحليل والنقد أعمال نتاج أدبية وفنية لأسماء كثيرة بارزة ومؤثرة في الثقافة الغربية، بل تجاوز أثرها إلى الثقافة العالمية. وهو التناول الذي ابتغت من ورائه فهم كنه الإبداع وعلاقته بالمرأة من ناحية، وتوضيح مركزية مكانة المرأة، وسيطرتها على الآليات السرية والشفرات الحاكمة للعملية الإبداعية التي تمزج فيها روح الطبيعة مع روح الأنثى كمحددات للصورة الكلية التي يخرج بها المنتج الإبداعي في الشعر والقصة والرواية واللوحة، بداية من الثيمة الثنائية بين أبوللو وديونيسوس ونفرتيتي وأعظم الشعراء في التاريخ مثل سبنسر وشيكسبير مرورا بروائيين وفلاسفة وثوريين مثل روسو وساد وجوته ووليام بليك وكولريدج وبايرون وشيلي وكيتس وبلزاك وجوتيه وبودلير وهويسمان وإميلي برونتي وأوسكار وايلد وغيرهم ممن يتناولهم الكتاب وصولا إلى إميلي ديكنسون.

النسوية والجنس

المعارف الإنسانية يجب عليها أن تهجر أو تتخلى عن إقطاعياتها المعزولة وتبدأ التفكير في ضوء التخيل

تنطلق كاميلي في الكتاب الذي جاء في أربعة وعشرين فصلا بالنظر في العصور القديمة وعصر النهضة والرومانسية منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى عام 1900. وفيه تبين “أن مدرسة الرومانسية تتحول وفي الغالب على نحو سريع إلى مدرسة الانحطاط. وهو ما نجده حادثا على مستوى كبار مؤلفي القرن التاسع عشر، بمن فيهم إميلي ديكنسون”، ثم تتساءل بعد ذلك “كيف أن السينما والتلفزيون والرياضة وموسيقى الروك، تجسد جميع ثيمات العهد القديم الكلاسيكي الوثنية؟” متتبعة في مجمل الكتاب مقاربة تجمع بين عدد من فروع المعرفة هي: الأدب وتاريخ الفن وعلم النفس والدين.

سؤلان محوريان تطرحهما باليا في توطئتها للكتاب: الأول ما الفن؟ كيف يبدع الفنان؟ وتقول “إن انعدام الأخلاق والعدوانية والسادية، والتلصصية، والإباحية كلها في الفنون العظيمة؛ تعرضت للإهمال أو الطمس من جانب معظم النقاد الأكاديميين، ومن ثم فإنني أسعى إلى ملء الفجوة القائمة بين الفنان وعمله الفني، وذلك باستعارات مأخوذة من مدرسة كامبريدج في الأنثربولوجيا وطموحي الأكبر هو الدمج بين فريزر وفرويد.” والسؤال الثاني: ما الجنس؟ وما الطبيعة؟ وتقول “إنهما في رأيي قوتان وثنيتان وحشيتان وتشديدي على الجوانب الحقيقية في الأنماط الجنسية، وعلى الأساس البيولوجي للفروق الجنسية. فأنا أعاود التأكيد على الاحتفاء بالسر والمجد القديم للمرأة، حيث أرى الأم قوة طاغية تحكم على الرجال بقلق جنسي يظل يساورهم طوال حياتهم، ولا يهربون منه إلا من خلال العقلانية والإنجاز البدني.”

وترى أن “النشاط الجنسي والإيروتيكية/ الشبق يمثلان التقاطع المعقد بين الطبيعة والثقافة. والنسويات من جانبهن يبالغن ـ بفحش ـ في تبسيط مشكلة الجنس، عندما يقلصنها إلى حدود كونها مسألة ميثاق اجتماعي يتعلق بإعادة تكييف المجتمع، وإلغاء التفرقة الجنسية وتنقية الأدوار الجنسية. ثم… تسود السعادة والانسجام. وهن في هذا وارثات لجان جاك روسو، مثل جميع الحركات التحررية خلال القرنين الماضيين.”

وتضيف “إن روسو يرفض الخطيئة الأصلية، في رؤية المسيحية السوداوية للإنسان كمولود دنس، لديه نزعة نحو الشر. وفكرة روسو التي اشتقت من لوك، تقول إن الخير الفطري لدى الإنسان أدى إلى نظرية ‘البيئة الاجتماعية’ التي تعد الآن بمثابة النظام الأخلاقي المهيمن على الخدمات الإنسانية الأميركية، وقوانين العقوبات، والعلاجات السلوكية. وتفترض هذه النظرية أن العدوانية والعنف والجريمة إنما تأتي من الحرمان الاجتماعي: حي فقير، ومنزل سيئ. والنسوية في رؤيتها للاغتصاب تلقي باللوم على فن الإباحية، وتفسر ـ بدائرية مختالة من الاستدلال ـ اندلاعات السادية على أنها رد فعل عنيف ومتطرف للإباحية. بينما كان الاغتصاب والسادية واضحين على مر التاريخ، بل ـ وفي لحظة ما ـ في كل الثقافات.”

عبادة الكلمة صعبت على الدراسة الأكاديمية التعامل مع التغير الثقافي الراديكالي لعصر الإعلام المتعدد الذي نعيشه
عمل جريء يشبه حرب العصابات في مجال الدراسة والبحث

وتلفت إلى أنها تأخذ بوجهة نظر دي ساد ـ المعروف بالماركيز دي ساد ـ الكاتب الكبير، أقل من قرئ له في الأدب الغربي. فأعمال ساد تعد نقدا هجائيا شاملا لروسو. كتبها في العقد التالي للتجربة الروسوية الأولى الفاشلة، وهي الثورة الفرنسية التي لم تنته في الفردوس السياسي، بل في جحيم عهد الترويع.

وتتابع “يسير ساد على هدى هوبز دون لوك. ونظرا إلى أن العدوانية تأتي من الطبيعة، فقد أطلق نيتشه بدوره ‘إرادة القوة’. وبالنسبة إلى ساد فإن العودة إلى الطبيعة (تلك الحتمية الرومانتيكية التي لا تزال تتفشى في ثقافتنا، بداية من الاستشارات الجنسية، وحتى إعلانات القمح والحبوب) سيكون من شأنها أن تطلق العنان للعنف والشهوة. وإني لأتفق معه في هذا. فالمجرم هنا ليس المجتمع بل القوة التي تتحكم في الجريمة. فعندما تضعف الكوابح الاجتماعية تتفجر وحشية الإنسان الفطرية فيه. فالمغتصب ليس نتاجا للتأثيرات الاجتماعية، بل نتاج فشل التشريط الاجتماعي. والنسويات في سعيهن إلى إبعاد علاقات القوة عن الجنس، إنما وضعن أنفسهن ضد الطبيعة، فالجنس قوة، والهوية أيضا قوة. ولا توجد في الثقافة الغربية علاقات غير استغلالية، فالكل قتل ليعيش. وقانون الطبيعة العام المتجسد في ‘الخلق من الدمار’، إنما يعمل في العقل كما يعمل في المادة. وكما يؤكد فرويد وريث نيتشه: إن الهوية صراع. فكل جيل يقود محراثه فوق عظام الموتى.”

وتؤكد أن الحرية الجنسية والتحرر الجنسي هما مجرد ضلالات حديثة. فما نحن إلا حيوانات في تراتبية هرمية. بمجرد زوال رتبة، تأتي أخرى لتحل محلها، وربما تكون أقل قبولا من الأولى. وهناك تراتبيات هرمية في الطبيعة وتراتبيات بديلة في المجتمع. في الطبيعة نجد القوة الوحشية هي القانون السائد: البقاء للأصلح. وفي المجتمع توجد أشكال لحماية الضعفاء. فالمجتمع هو المانع الرخو ضد الطبيعة. وعندما تنخفض مكانة الدولة والدين، يكون الرجال أحرارا، بل إنهم يجدون الحرية لا تطاق، ويسعون إلى استحداث طرق لاستعباد أنفسهم عبر تناول العقاقير أو بالاكتئاب.

 ونظريتها أنه وقتما عثر على الحرية أو تحققت فستجد السادومازوخية رواجا وتقترب من مقدمة المشهد، الرومانسية دائما ما تتحول إلى انحطاط. والطبيعة سيد عصي، فهي المطرقة والسندان لسحق الفردية. وقدر الحرية المكتملة أن تفنى بمكونات وعناصر الطبيعة: التراب والهواء والماء والنار. إن الجنس قوة أكثر غموضا مما أقرته النسوية بكثير. فمعالجو الجنس السلوكيون يعتقدون في إمكانية وجود جنس لا يعقبه شعور بالذنب. جنس ينطوي على خطأ. غير أن الجنس ظل دائما حبيس المحرم، بغض النظر عن نوع الثقافة، فالجنس هو نقطة الاتصال بين الإنسان والطبيعة، حيث تسقط الأخلاقية والنيات الحسنة إلى مستوى الحوائج البدائية الملحة.

الفن الانحطاطي

حح

تلفت باليا إلى أن عبادة الكلمة صعبت على الدراسة الأكاديمية أمر التعامل مع التغير الثقافي الراديكالي لعصر الإعلام المتعدد الذي نعيشه. فالأكاديميون يحاربون دائما حتى النهاية. والنقد الأدبي التقليدي ينازع محتضرا. ويجب على المعارف الإنسانية أن تهجر أو تتخلى عن إقطاعياتها المعزولة وأن تبدأ التفكير في ضوء التخيل، تلك القوة التي تتقاطع عندها الصنوف الأدبية والفنية، وتتوحد بسمو مع الفن الشعبي: النبيل مع الحقير. لا انحدار ولا كارثة في انتصار الإعلام، فقط يوجد تحول من الكلمة إلى الصورة ـ بمعنى آخر – عودة إلى التصويرية الوثنية، ما قبل جوتنبرج وما قبل البروتستانية للثقافة الغربية. فتلك الثقافة الشعبية التي تستعيد ما منعته الثقافة السامية، تكون واضحة في حالة الفن الإباحي، فالفن الإباحي مدرسة صورية وثنية صافية. تماما مثل كون الشعر تعبيرا لفظيا محدودا طقوسيا. كذلك الفن الإباحي تعبير مرئي محدود طقوسي، عن شيطانية الجنس والطبيعة.

وتضيف “كل لقطة، كل زاوية في الفن الإباحي بغض النظر عن كونها حمقاء أو محورة أو ممتقعة، تظل محاولة أخرى للحصول على الصورة الكاملة لفخامة الطبيعة الأرضية السفلية. هل الفن الإباحي فن؟ نعم. الفن تأمل وصياغة مفاهيم، الاستعراضية الطقوسية للأسرار الغامضة الأولية. الفن يضفي النظام على الوحشية الإعصارية العاصفة للطبيعة. الفن ممتلئ بالجرائم. القبح والعنف في الفن الإباحي يعكسان القبح والعنف في الطبيعة.”

وتتابع “إن علنية ووضوح الفن الإباحي المجبول على الذكورية يجعل غير المرئي مرئيا، أي الباطنية الأرضية للمرأة. فهو يسلط ضوءا أبولونيا على ظلام المرأة المثير للقلق. والملامح المطبوعة للفن الإباحي هي العقدة المتشابكة للطبيعة الميدوسية. فالفن الإباحي تخيل إنساني لفعل مسرحي مكثف؛ انتهاكاته هي احتجاج على انتهاك الطبيعة لحريتنا. وحظر الفن الإباحي وهو ما سعت إليه المسيحية اليهودية على طول الخط، كان من شأنه أن يمثل انتصارا على الوثنية العنيدة. ولكن الفن الإباحي لا يمكن حظره، يمكن تسييره سريا فحسب، حيث سيتم تعزيز شحنته غير المشروعة. والتصويرية اللاأخلاقية في الفن الإباحي، ستعيش للأبد كتأنيب للعقيدة الإنسانية للكلمة المخلصة. فالكلمات لا يمكنها أن تنقذ من فيض الطبيعة الوثنية الوحشي.”

عبادة الكلمة صعبت على الدراسة الأكاديمية التعامل مع التغير الثقافي الراديكالي لعصر الإعلام المتعدد الذي نعيشه

وتشير كاميلي إلى أن الهوية الإنسانية لدى ساد كما هي عند المدرسة الرومانسية، لا تعود إلى المجتمع، بل تعود إلى الذات المتشيطنة. غير أن ما يجعل ساد مختلفا عن غيره من الكتاب الرومانسيين الأكثر سلبية (باستثناء بليك) هو أن الهوية تتصاعد لديه من أفعال الفجرة والضحايا على حد سواء؛ فطرف منهما يبادر، والطرف الآخر يعانيه. إن سياق الهوية السادية سياق دراماتورجي فهناك دائما تابلوهات ومناظر دراماتيكية لأجساد مجدولة، تلك التي يطلق عليها الناس أحكاما جمالية ذكية. كما أن المسرحانية تبدو صارخة وفاضحة في السادومازوخية الحديثة، بملابسها وبدعامات خشبة المسرح، وداخل السيناريوهات. إن السادومازوخية هي عرض من أعراض التعطش الثقافي للتراتبية الهيراركية.

وتوضح أن مصطلح الانحطاط يطلق على المرحلة الأسلوبية المتأخرة من الأدب الرومانسي وهي مرحلة تتميز باجتياح المخيلة الرومانسية لكل الحدود. والانحطاط بهذا المعنى يخترع وهو رازح تحت عبء الحرية، حدودا جديدة فظة، جنسية نفسية وفنية. إنها عملية تشيؤ للعين الغربية المحتالة وتثبيتها وتأديبها وتكثيفها. إذ طالما ثمنت الرومانسية الرفيعة الطاقة، بوصفها مساحة للتنفس، أما الرومانسية المتأخرة في مرحلة الانحطاط فتوصد الأبواب وتحبس الذات والعين في حيز من العقائدية والوثنية. وبهذا المعنى يمكن القول إنها نظرية للطبيعة، تسير على نهج ساد وكولريدج اللذين يريان في الطبيعة وحشية وإفراطا. فالفن يحل محل الطبيعة، أي أن العمل الفني يصبح مركز الحنكة الفيتيشية، كون الشخص متحولا خلالها إلى شيء جميل، فوق القانون. إن الانحطاط يصل بالأقنعة الجنسية الغربية إلى ذروة منتهى الصلابة والاصطناع، حيث تكون منغمسة ومختمرة في الجنس كمنحى فكري، وليس كفعل. فالانحطاط نوع من الأدب يشن غارة أبولونية على الديونيسوسية، تعمل على تثبيت العين العدوانية وتجميد العوامل المكدرة الخاصة بالطبيعة.

كاميلي باليا: الحرية الجنسية والتحرر الجنسي هما مجرد ضلالات حديثة. فما نحن إلا حيوانات في تراتبية هرمية
كاميلي باليا: الحرية الجنسية والتحرر الجنسي هما مجرد ضلالات حديثة. فما نحن إلا حيوانات في تراتبية هرمية

وتكشف كاميلي أن الفن الانحطاطي عانى من القدر أو المصير نفسه، حيث الرسم الأكاديمي للصالون، قد اكتسح عبر انتصار الطليعة والحداثة. ولقد شهدت العشرون سنة الأخيرة إحياء عالميا للرسم المجازي. صارت المتاحف تنفض الأتربة عن الأعمال المهملة في أقبية مخازنها. والمطلوب الآن مراجعة لتاريخ الفن من شأنها الاعتراف بواقعية الحد الذي بلغه الفن الطليعي في انتمائه إلى مرحلة الرومانسية المتأخرة المنحطة: كثير من أعمال ويسلر ومانت وكل أعمال تولوز لاوتريك ومونك وجودي وحتى لوحة لاجراند جات لجورج سورا بثباتها المنحط وما تنطوي عليه من رهاب الأماكن المنغلقة.

وتبين باليا أن الفن الانحطاطي فن طقوسي وكشفي، مضمونه أقنعة جنسية رومانسية، وأصحاب المرتبة الرفيعة، وضحايا الطبيعة الشيطانية. والفن الانحطاطي لم يكن أبدا مجرد تفسير تصويري، حتى خلال تصويره الأحداث العظام بالشعر. إنه فن يضفي الدراما على الصورة الغربية المهيمنة، وعلى الخضوع الجنسي للعين العدوانية. ويملي الفن الانحطاطي مطالب عدائية على المشاهد. فأسلوبه هو الفرجة الوثنية والاختيال الوثني. وخلف أتفه الرسوم الانحطاطية ثمة افتراضات رومانسية معقدة حول الطبيعة والمجتمع، تغاضت عنها الكتب المرجعية التي تناولت فن القرن التاسع عشر، في حين تم الإفراط في التأكيد على أبطال الثقافة الحداثيين مثل سيزان.

في رأيها الوضوح والأمانة عند سيزان، تلك القيم البروتستانتية العائلية تأتي على الخط الروسوي ـ الوردزورثي. والفن الانحطاطي يسوق مثل الباروك المناهضين للإصلاح، أكاذيب كبيرة. دانتي جابريل روزيتي، وإدوارد بيرن جونز وجوستاف مورو وأوبراي بيردسلي، لابد أن يأخذوا مرتبة أعلى. وبرغم ضعف شعبيته في ستينات القرن العشرين، إلا أن بيردسلي، أحد كبار فناني الجرافيك، دائما ما يكون غائبا في المناهج الجامعية الأميركية ومجموعات شرائح العرض. إنه مثل ساد عليه مقص الرقيب من جانب العلوم الإنسانية الليبرالية.

وتؤكد أن الكاتب ثيوفيل جوتيه الذي بدأ مساره المهني رساما، هو أبو الانحطاط الفرنسي والانجليزي، إنه يخلق الجماليات، يخلق العبادة الوثنية الجديدة للجمال. فتحرير جوتيه للعين وإضفائه الطقوسية عليها، يحولها من سماتها الأدبية ذات النزعة الأرضية السفلية إلى السمات الأبولونية، واضعا بذلك الرومانية في خط الهيراركية الغربية الرئيسي الذي يبدأ من مصر واليونان القديمة. لقد أثر جوتيه تأثيرا عميقا في كل من بودلير وفلوبير ومالارميه وسوينبيرن وذلك باعترافهم. ومن ثم فتأثيره يبدو واضحا بقوة عند والتر باتر وأوسكار وايلد. وقد أسهم في تاريخ الرقص ككاتب لكلمات أوبرا جيزيل وأوبرا طيف الوردة. وربما يعود إهمال جوتيه نقديا، إلى الحياء الزائد على الحد بعد سقوط وايلد، ولكن هذا الإهمال أيضا يعكس حالة عدم الاكتراث بشهوانية الفن. كما أن تحليل الأسلوب مازال علما ينقصه الكمال. فالأسلوب وهو الأساسي عند جوتيه، هو موسيقى الأقنعة الجنسية.

13