الفنون الشعبية تقاوم مخاطر الضياع بتجديد المحتوى

فن الرقص موغل في التاريخ الإنساني، خرج من معابد الدين وحاكى أمنيات الناس وحضاراتهم، وثّق تاريخ المجتمعات، وروى حكايات أشخاص وأحداث عبر التاريخ. وللرقص أشكال وآفاق لا تقف عند حد. في سوريا وجدت فرقة أميّة للفنون الشعبية التي قامت على فكرة المحافظة على التراث في فنون الموسيقى والغناء والرقص والأزياء وكان لها حضور فني لافت عبر ما يزيد عن الخمسين عاما.
لم تغب الموسيقى التقليدية عن جمهورها رغم ما قدمه العصر الحديث من أنماط موسيقية مختلفة تتميز بوجود تغيرات موضوعية وشكلية في بناء التأليف الموسيقي وطرق عرضها وعزفها على الجمهور، وبقي الجمهور على علاقة متينة معها حتى يومنا المعاصر. الأمر ذاته كان في فن الرقص، فرغم وجود أشكال حديثة منه على مستوى العالم، لم يغب الرقص التقليدي عن اهتمام الجمهور وما زال يحظى بالمتابعة، حيث يعرض في كبريات دور العرض ويتلقاه جمهور عريض. فوجود رقصات التانغو والرومبا والبريك دانس وغيرها كسب جمهورا عريضا على مستوى العالم، لكن الرقص التقليدي بقي موجودا وله جمهوره ومتابعوه.
وفي سوريا، يثبت التاريخ الحضاري القديم للمنطقة والممتد لعشرات الآلاف من السنين، أن الرقص كان موجودا منذ القدم كما في غيرها من حضارات العالم القديم، مرتبطا بالطقوس الدينية أو الاجتماعية لدى الناس، فهو تعبير جسدي عن أفكار يقوم بها الفرد في حواراته مع الآلهة القديمة أو في طقوس اجتماعية حية كما في مواسم الزراعة والحصاد والزواج والولادة والموت وغيرها من الطقوس الإنسانية، والرقص ملتزم بالموسيقى والإيقاع ويشكلان معا على الجسد الإنساني هارموني فني يمكنه نقل أفكار أو تخليد معان وقيم.
الرقص ملتزم بالموسيقى والإيقاع ويشكلان معا على الجسد الإنساني هارموني فني يمكنه نقل أفكار أو تخليد معان وقيم
حماية التراث
في بداية ستينات القرن العشرين تنادى عدد من العاملين بالوسط الفني السوري إلى ضرورة تأسيس فرقة فنية تقدم التراث في الموسيقى والغناء والأزياء في قالب علمي وعصري يؤدي إلى حمايته من الضياع، وكان هؤلاء ينظرون بعين الرضا لوجود جهاز التلفزيون الذي سيمكنهم من تقديم هذه الفنون في كل أنحاء سوريا.
وكان للموسيقار عدنان أبوالشامات دور حاسم في تأسيس هذه الفرقة ثم في قيادة فرقتها الموسيقية لمدة زادت عن العشرين عاما. فتأسست فرقة أميّة للفنون الشعبية، وصارت ضيفة على المتلقي السوري، وكانت الفرقة الأولى في سوريا التي تقدم فن الرقص بشكل ممنهج وعلمي، ثم تتالت التجارب الفنية في هذا المضمار حتى تأسست في بداية تسعينات القرن العشرين العديد من الفرق الفنية التي شكلت منعطفا هاما في تاريخ فن الرقص وكان لوجود فرقة إنانا دور هام في إحداث تغيير كبير في مفهوم فن الرقص حيث دخل مصطلح الرقص المسرحي لقائمة الفنون في سوريا لأول مرة، كما وجدت مدرسة الباليه في سوريا عام 1989 وتم إحداث قسم للرقص التعبيري في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1998.
وفرقة أميّة التي كانت رائدة في تحقيق معادلة فنية صعبة في فن الرقص، لم تغب عن الساحة رغم تراجع حضورها في زحمة المتغيرات التي أحاطت بها، والمشكلات الفنية والإدارية التي تعصف بها، فقدمت في الخامس عشر من شهر فبراير الجاري عرضا فنيا على مسرح الحمراء في دمشق، قدمت فيه مجموعة من اللوحات بدأتها بواحدة عن فن المولوية ورقص الدراويش ثم بالعديد من الرقصات التراثية التي تحاكي حالات اجتماعية متعدّدة وكذلك بلوحات في رقص السماح ثم عددا من رقصات الدبكة لتنهي برنامجها بلوحات عديدة عن العرس في التراث الشعبي كما قدمت معزوفة رقصة ستي الشهيرة على آلة العود.
رحلة جديدة
وجدت فرقة أميّة كحدث فني هام، فظهرت في معظم حفلات التلفزيون السوري ورافقت معظم المطربين السوريين والعرب الكبار في تقديم فقراتها، وصارت تابعة لوزارة الثقافة السورية منذ أوائل السبعينات، وصار كل أعضائها موظفين رسميين في مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة، وقدمت خلال عمرها الطويل المئات من الحفلات داخل سوريا وخارجها، حيث مثّلت سوريا في العديد من المهرجانات العالمية.
وكان الهدف من الفرقة تقديم التراث في الموسيقى والغناء والأزياء بشكل منظم وموثق، وحققت ذلك من خلال العديد من مؤلفات الأوبريت أو اللوحات المنفصلة والتراث الصوفي أو الشعبي أو الطربي، كما قدمت توثيقا لحالات اجتماعية عديدة يعيشها الإنسان السوري في يومياته.
التجديد في تقديم لوحات فنية هدف أساسي يجب أن تسعى إليه كل الفرق الفنية المعنية بتقديم فنون الرقص والموسيقى والغناء
وعن كل ذلك، يقول مدير فرقة أميّة تيسير علي لـ”العرب”، “فرقة أميّة تهتم بكل أنواع التراث الموجود في سوريا، منها الرقص، سواء ما يقدم في الزوايا الدينية أو رقص السماح أو الفولكلور الشعبي بكافة أشكاله في كل نواحي البلاد. أو في ما يتعلق برصد العادات والتقاليد. واهتمت الفرقة بالكثير من تفاصيل الحياة الاجتماعية اليومية، فأظهرت التكافل ومنه ما كان على مستوى التجارة في الأسواق مثلا. فقدمت أوبريت ‘كان يا ما كان’ وهي تشرح صور التكافل الموجود بين العائلات السورية، فمنها ما يكون في السوق بين التجار، بحيث يدفع أحدهم بالزبون للتاجر الجار الذي لم يبع شيئا منذ الصباح، هذه العادات التي افتقدناها في زمننا المعاصر ونرغب في المحافظة عليها”.
ويضيف “أظهروا أيضا اللعب الاجتماعية الموجودة داخل المنازل، في اجتماع النساء في لعبة البرسيس مثلا أو غيرها. كما أظهروا التعايش الموجود بين كافة الطوائف الموجودة في سوريا والتكتل الاجتماعي السوري في مقارعة الاحتلال العثماني حينذاك”.
ويرى تيسير علي أن التجديد في تقديم لوحات فنية هدف أساس يجب أن تسعى إليه كل الفرق الفنية المعنية بتقديم فنون الرقص والموسيقى والغناء، رغم ما يواجه ذلك من مصاعب مهنية تتعلق بتوفير الطاقات المؤهلة التي تصنع في ذلك فنا جيدا.
يتابع علي فيقول “التجديد مطلوب لأيّ فرقة فنية تقدم فن الرقص ونحن نكافح لكي نفعل ذلك، بتقديم الجديد في التراث في الرقص والموسيقى والغناء مع الحفاظ على التراث الحقيقي بما يخدم المسرح وفن الرقص ونحافظ على البعد الاجتماعي من خلال الحفاظ على العادات والتقاليد التي وجدت في هذه الرقصات. ولكن هذا التطوير يواجه معاناة كبيرة وصعبة فهو يحتاج إلى عدد كبير من الراقصين وإلى موسيقى خاصة وإلى كاتب جيد قادر على أن يضع نصا جيدا ومن ثم توضع له ألحان متميزة تليها بقية مراحل العمل وصولا إلى إعداد راقصين جيدين لإظهار هذا العمل بشكل جيد يناسب تاريخ هذه الفرقة. نحن نعمل مع كافة الجهات المعنية في وزارة الثقافة ومديرية المسارح والموسيقى لإعداد موسيقى جديدة متميزة وراقصين جيدين يقومون بالعمل على أكمل وجه”.
الرقص وجذور الحضارة

في سوريا الكثير من أشكال الرقص التراثي الشعبي الذي يختلف من بيئة إلى أخرى، حسب المناخ البيئي الطبيعي للمناطق، فرقص الساحل ومنطقة غرب سوريا يمتاز بالسرعة بينما يتجه للهدوء كلما انزاح إلى منطقة الشرق نحو البادية. ومن المؤكد أن الرقص التراثي في سوريا يمتد بجذوره إلى حياة الأقدمين وتفاصيل حياتهم الدينية والاجتماعية.
ويبين عدنان بن ذريل في كتابه “تاريخ الدبكة” تفاصيل بعض أنواع الرقص في سوريا، وخاصة فن الدبكة الذي هو توقيع متوافق بالأقدام على الأرض ويكون مصحوبا بعزف على آلة المزمار أو الناي وبمواكبة إيقاعية واضحة. ويتميز فن الدبكة بالحيوية والسرعة وسهولة الكلمات المغناة وبساطتها، وهو موجود في كل أنحاء سوريا ويتلوّن حسب كل منطقة بتفاصيلها المكانية والحياتية.
وحسب كتاب “لغز عشتار” للباحث السوري فراس السواح فإن بواكير فن الرقص الموقّع الذي يأخذ شكل الضرب بالقدمين على الأرض يظهر في رقصة “الهجع” التي كانت تمارسها كاهنات الإله عشتار حيث يرقصن بهز الكتفين والوركين ثم تقوم الكاهنة بإطلاق شعرها يمينا ويسارا ثم تسدل شعرها ليلامس الأرض في حالة مهيبة، ثم تقوم لتضرب الأرض بقدميها بقوة في حركة موقعة معها من بقية الراقصات في تأكيد على فكرة إيقاظ الأرض من سباتها الذي طال في فترة الشتاء. وبذلك تحاكي فكرة تحرير الإله تموز من الأسر الذي يحوط به والانطلاق نحو الربيع والألوان والجو الأكثر دفئا. وفي التراث السرياني القديم يرد تفسير لوجود غناء الدلعونة الشهير ومرافقته لفنون وأشكال الدبكة.
رقص الساحل ومنطقة غرب سوريا يمتاز بالسرعة بينما يتجه للهدوء كلما انزاح إلى منطقة الشرق نحو البادية
ووفق هذا الرأي يعود أصل الكلمة إلى جذر “عونا” ويعني مساعدة الغير أو تقديم الفزعة له وتكون في الغالب مرتبطة بموسم عصر العنب، حيث تقوم النساء العذارى بعصر العنب في أجران صخرية بكعاب أرجلهن وفق حركة منسقة قوية، وكان الصبايا يساعدن بعضهن في هذا الطقس ويسمّى ذلك “عونا” وألحقت به ألف لام التعريف في السريانية القديمة وهي حرف الدال فصارت “دلعونا” وهو شكل غنائي معروف في كل سوريا وبر الشام.
وإلى جانب هذا الرقص الحيوي السريع يظهر رقص السماح الذي بناه في شكله الأولي الشيخ العقيل في نواحي حلب في القرن الثالث عشر الميلادي ثم طوّره وشذّبه الشيخ عمر البطش في حلب في بدايات القرن العشرين وعنيت به مدينة دمشق وصار ملازما لحفلات الغناء الأصيلة التراثية وهو يقوم على تناغم بين الخطوات والإيقاعات الموسيقية مع تداخل ذلك بحركات لليدين، ويؤدي رقص السماح الذكور والإناث معا أو منفصلين. كذلك يظهر رقص الدراويش لدى المتصوفة والذي يعود في جذره بحركاته الدورانية المعروفة إلى جلال الدين الرومي وأتباعه.
ويفسر البعض ذلك بعلاقة الآلهة عشتار بتموز وعشقها له وحزنها الشديد لموته ورحيله للعالم السفلي ومن ثم غضبها الشديد ورغبتها في الانتقام، مما دفع بالآلهة “أيا” إلى خلق آلهة جديدة تقف في وجه عشتار، وصارت الآلهة الجديدة ترقص بشكل دائري يحيط بعشتار ويمتص جذوة غضبها، وتناقل الناس هذه الرقصة عبر أجيال طويلة وظهرت بشكل أو بآخر في رقص الدراويش الذي يعتمد على الحركة الدائرية حول النفس في محاكاة لحركة الكواكب والنجوم في الكون والانصهار معها.
