الفنان مجهول في الحياة ومشهور بعد الممات

مجتمعات تعيش تضاربا بين قيمها وتقبلها للفن.
الاثنين 2023/08/07
لا أحد يهتم بالفن

يشكو مثقفون وفنانون في الكثير من دول العالم، وخاصة في المنطقة العربية، من تجاهل كبير لهم ولإنتاجاتهم وإنجازاتهم الفنية طوال حياتهم، حتى إن كان المنجز الفني جيدا ويقدم رسائل مهمة. هذا التجاهل سرعان ما ينقلب إلى اهتمام وتثمين واحتفاء بمجرد وفاة الفنان، ليحظى وهو ميت بما عاش يتمناه خلال حياته، ويجني ثمار جهوده بعد أن يغادر الزمان والمكان.

الفن في المغرب ليس مجرد خلق لوحات بصرية أو أداء موسيقي، إنما هو وسيلة للتعبير والتفكير والتواصل بين الثقافات والأجيال. ومع ذلك، هناك ظاهرة غريبة ومعقدة تُلاحظ في العديد من ثقافات العالم وتتجلى في تجاهل الجمهور للفنانين أثناء حياتهم، لكنهم يعيشون بالذاكرة ويزداد الاهتمام بأعمالهم بشكل ملحوظ بعد رحيلهم. وتُعرف هذه الظاهرة بـ”تقدير الفنان بعد وفاته”، وهي ظاهرة معقدة يمكن تفسيرها من عدة زوايا. قد يكون لبيئة الفنان والزمان الذي يعيش فيه دور كبير في تحديد كيفية تقدير أعماله.

كما أن بعض الأعمال الفنية قد تكون مبتكرة إلى درجة أنه يصعب فهمها في الزمان الذي وُجدت فيه، ولكن بمرور الزمن تتغير القيم والمفاهيم ويمكن للناس التفاعل بشكل أفضل مع تلك الأعمال، وبعد وفاة الفنان قد ينظر الناس إلى أعماله كجزء من تاريخ وتراث البلد أو المجتمع، مما يزيد من قيمتها وتقديرها. كما قد تتلقى أعمال الفنان تغطية إعلامية واسعة بعد وفاته، مما يساهم في اكتشافها وتقديرها من قبل جمهور أوسع، ولكن ما قيمة الفنان إذا تم تجاهله في الحياة وتقديره بعد الممات؟

◙ ظاهرة تقدير الفنان بعد وفاته تعكس تعقيدا على مستوى العلاقة بين الفن والجمهور والعوامل الثقافية والاجتماعية المتغيرة
◙ ظاهرة تقدير الفنان بعد وفاته تعكس تعقيدا على مستوى العلاقة بين الفن والجمهور والعوامل الثقافية والاجتماعية المتغيرة

تعكس ظاهرة تقدير الفنان بعد وفاته تعقيدا على مستوى العلاقة بين الفن والجمهور والعوامل الثقافية والاجتماعية المتغيرة. تلك الأسباب المذكورة وغيرها تجتمع لتفسير هذه الظاهرة، وتجعلها جزءًا من ديناميكيات تقدير وفهم الفنانين وأعمالهم.

ويعد الفن منبرًا لتعبير الإنسان عن مشاعره وأفكاره من خلال تنوع أشكاله، وهو عمودٌ أساسي في بنية الثقافة ووسيلة للتواصل. ومع ذلك، تنتشر ظاهرة معقدة في مجتمعات عديدة حول العالم تتعلق بالاستهانة بالفنانين أثناء حياتهم، وعدم تقدير إبداعاتهم إلا بعد رحيلهم. هذه الظاهرة واضحة بشكل خاص في المجتمع المغربي، حيث يعاني الفنانون، خاصة في السينما والمسرح، من قلة اهتمام الجمهور بأعمالهم أثناء وجودهم، بينما يتلقون اهتمامًا واسعًا واعترافًا بعد وفاتهم.

قد يكون هناك تضارب بين قيم المجتمع وتجسيد الفنانين لأفكار ومفاهيم غير تقليدية. تنطوي بعض الأعمال الفنية على محتوى جريء أو يختلف عن القيم المتبناة، مما يؤدي إلى عدم فهمها أو رفضها من قبل الجمهور أو عدم توفير الدعم المالي والبنية التحتية الكافية، وهو ما يقيِّد قدرة الفنانين على الترويج لأعمالهم والمشاركة في الساحة الفنية. فعدم توفر الفرص والمنصات يجعلهم غير بارزين ويقلل من تأثير أعمالهم.

ويلعب التثقيف الفني دورًا أساسيًا في تقدير الفن. قد ينعدم الفهم العام للجمهور للأعمال الفنية ورسائلها، مما يؤدي إلى تقليل قيمتها وتأثيرها. في المقابل تعزز عوامل مختلفة اهتمام المجتمع بالفنانين بعد وفاتهم مع مرور الزمن، ويصبح إرث الفنان جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي والفني للمجتمع.

ويبدأ الناس في التفكير في مساهماتهم وأثرهم على الفن والثقافة، مما يؤدي إلى زيادة قيمة أعمالهم، ثم تتمثل جاذبية خاصة بعد وفاة الفنانين في التأمل في مسارهم وإبداعاتهم. وتصبح قصص حياتهم وإرثهم مصدرًا للإلهام والرواج كما تتزايد التقارير والمقالات الصحفية والنقدية حول الفنانين بعد رحيلهم، حيث يتم تسليط الضوء على مسيرتهم وأعمالهم. ويتيح هذا للجمهور الاطلاع على جوانب مختلفة من حياتهم الفنية.

◙ هذه الظاهرة واضحة في المجتمع المغربي، حيث يعاني الفنانون، خاصة في السينما والمسرح، من قلة اهتمام الجمهور

وخلاصة القول هي أن ظاهرة تجاهل الفنانين أثناء حياتهم وتصاعد الاهتمام بأعمالهم بعد وفاتهم تجسّد توازنًا دقيقًا بين الجمهور والفن. هذه الظاهرة تُشجِّع على التفكير في كيفية تقدير واحترام المبدعين وأعمالهم أثناء حياتهم، حيث يمكن للتواصل والتفاعل الفعّال مع الفن أن يُحدثا تأثيرًا إيجابيًا على المجتمع.

إنّها دعوة للجمهور ليكون أكثر تواصلاً مع الفن والفنانين، وأن يدرك أن تقدير الفن ليس مقتصرًا على فترة معينة، بل يجب أن يكون مستمرًا ومتجددًا. عندما يُقدّر الجمهور الفنانين ويتفاعل مع إبداعاتهم أثناء حياتهم، يمكن أن يشجّع ذلك على تعزيز الثقافة والفهم الجماعي، ويساهم في تقديم دعم مالي وهيكلي للفنانين ليستمروا في إبداعهم.

هذا التواصل الأعمق مع الفن يمكن أن يساعد في تغيير الديناميكيات التي تؤدي إلى تجاهل الفنانين، ويؤكد على أهمية الفن كوسيلة للتعبير والتواصل البشري. وعندما ندرك أن قيمة الأعمال الفنية تتعدى مجرد الزمان والمكان، نستطيع أن نكون جزءًا من تحفيز الإبداع ودعم الفنانين ليستمروا في خلق أعمالهم الملهمة والمؤثرة على مدار الزمان.

14