الفنان العراقي كريم سعدون: الجسد في أعمالي افتراضي خارج سلطة التنميط

يأتي كتاب “سؤال الجسد.. حوارات أعمال كريم سعدون” ليقدم رؤية وتحليلا للجسد بصفته الحاضر الأكبر في أعمال الفنان التشكيلي العراقي الذي انطلق من الحقيقة ليخلق جسده الخاص المتحرر من كل الضوابط والقيود، وهو يعيش في محاولات متكررة يمكن وصفها بأنها ما بعد تجريبية تخلق أجسادا وتعيد خلقها علّها تحررها وتلقي بها في عالم لامحدود.
تغتني المسيرة التشكيلية للفنان العراقي كريم سعدون بفضاءات خيال فني خصب، ثري، ومتنوع نتاجه، فهي تحمل إرث فنون الحضارة العراقية رسما ونحتا وعمارة وغيره، وتفاعلاتها وتشابكاتها مع رؤى الحضارة الغربية وأفكارها، وهو الأمر الذي جعل من إبداعات ـ هذه المسيرة ـ تتألق في عشرات المعارض الفردية والجماعية شرقا وغربا، وأن يؤخذ منها مقتنيات تتألق في أهم وأبرز المؤسسات والشركات العالمية.
هذه المسيرة يضيء بعضا من جوانبها الكتاب الصادر حديثا “سؤال الجسد.. حوارات أعمال كريم سعدون” الذي أعده وقدم له بدراسة عميقة الناقد التشكيلي محمود عواد توقف فيها عند سؤال الجسد في لوحات سعدون، مؤكدا أن ثمة فرادة تميّزت بها أجساده، فقد استطاع أن يطرح جسدا مشحيا خشبته العين الطرسية الباصرة.
عند الامعان في كاتلوغه الجسدي نرى بأن تلقي أعمال الفنان العراقي يستدعي حضور ذاكرتي، وهذا الشكل يكشف لنا رهانه على الحضور التلاسني في الشكل وليس في نص الحوارات الواردة في هذا الكتاب فحسب، وهذا التلاسن الذاكرتي المستلزم امتلاكه في الاحتفاء بأجساده، ناجم عن بحثه الدائم عن مخطوطة الوجود المفقودة التي هي الجسد.
استدعاء الجسد العراقي
من وجهة نظري أن كل ما قدم من أشكال بصرية هي أجساد سيمولاكرية تسعى جاهدة إلى مجانبة تصوره للنسخة الأصل، ويظهر الحس السيموالكري في نصه البصري (السياب) وهنا ثمة استفهام مفاده: كيف استطاع الفنان أن يجمع بين السيمولاكر والطرسية والجذمور في عمل واحد؟ يبدو لي أن اصراره على الجمع بين هذه النظريات الثلاث، متأت من رهان على ضرورة الإقامة على الحدود المغامرة التي يعدها هاينر مولر حجر مسرحه ومحفزه الإبداعي إنسانيا وفكريا. والحدود بالنسبة للفكر هي جغرافية مادية معادية بالنسبة للجميع، ولا ترتسم تضاريسها إلا بسؤال إشكالي تلاسني يمنح العمل اكتساب عداوته وبراءته في آن واحد، فإن تلاسن فكريا يعني أن تحظى بحضور فراغي يدفع بالمخيال إلى حيازة المحفز المعرفي المتمثل بثنائية الاتصال والانفصال كما حدث في حوارات أجريت مع جاك دريدا وجيل دولوز وأمثالهم من فلاسفة الفنون.
ويرى عواد أن المآزق الكونية من حروب وأوبئة وظواهر طبيعية، هي سؤال الجسد وجوابه اللذان هما انطلاقة الوجود نحو أثره الصيروري، فلا معرفة ولا فعل تثاقفي من دون توافر الجسد، ففيه يحفر الفن حضوره مثل وشم يتجدد بتحديث المرحلة لطبقات اللحم بالكارثة؛ وتعد الحرب التي هي الشاغل الأكبر لكريم سعدون أعظم تلك الكوارث وأخطرها منهومة بتحديث الجسد البشري وجعله عولميا، ذلك في استخدامها آخر صيحات الأسلحة!!؛ فالجسد البشري من منظور الحرب هو مستهلك لأخطر موضات العالم، ومتى ما استوعب الفن ذلك صار يسيرا على الجسد الخروج من دائرة اللفظ إلى القول الشكلي، مجاراة منه لما يشهده العالم من تحولات في بورصة الصورة، ولا يعي هذا سوى الفنان المطعم بفارماكون التجريب.
جسد الفنان التشكيلي العراقي سعدون هو نص لعبي يفلت من الإجابة بسؤال يسعى من خلاله ترسيم تحركه السري
يمكن عد كريم سعدون فنانا ما بعد تجريبي كونه اجتهد في عصرنة جسده البصري بما يملك من ثراء معرفي وفرجوي ساهم في تشكل عوالمه، إذ برع في استدعاء الجسد العراقي كأنه يريد القول بأن الافتراضي قائم على استدراج المكان بوساطة فهمنا لجسد المأزق الوجودي. فالفنان المعاصر ذلك الذي برع في جسده خردة في أسواق الحرب.
ولأننا قبلنا نزال الجسد، إذا فلنستمع للعين وهي تطرح سؤال روبرت هولب المستغور والراصد لفعل التلقي: لو لم يكن ثمة جسد، من أي المخيالات سيأتي هذا الفنان بمخلوقاته؟ في ظني أنه سيلجأ إلى فرضية الجسد القائمة على جدية الفنان في تكثيف جهوده لفهم الجسد نفسه، وكل غياب هو تفكيك وتأويل، بذلك يتمكن من مناورة الأثر والعودة به إلى فضاء الاحتمال بتلاسن دائري يعمق الصمت في العمل الفني”.
ويضيف أن “جسد كريم سعدون هو نص لعبي يفلت من الإجابة بسؤال يسعى من خلاله ترسيم تحركه السري، كأنه بمهمة ليلية يروم من ورائها كتابة سيرة ذاتية للسان الليلي، لعله يحظى “بالكلمة الصورة” التي هي شيفرة الإبداع الأبدي، ولن تنطلق من دون توفر لسان كريستالي”.
الحوارات التي ضمها الكتاب أجراها كل من: محمود عواد، أشرف حساني، عمادالدين عيسى، عصام القدسي، أمجد رشيد مجدوب، حسين العبيدي، جمال الشرقي، سعد قاب، علاء النفرجي، سجا العبدلي، مريم المهداوي، انديرا مطر، ماس قصي، ناصر سماري جعفر، محسن إبراهيم، قحطان جاسم جواد، ورقاء الخزاعي. كما ضم الكتاب أيضا سيرة الفنان وببلوغرافيا لأعماله.
ردا على تساؤل حول كون الجسد يبدو فضاء افتراضيا في أعماله ومساهمة ذلك في عولمتك المكان، يقول كريم سعدون “الافتراض هنا نوع من تمويه يتحايل عىل نمذجة جديدة للجسد تؤدي غرض التحقق من مدي الحرية التي تتوفر ومدى التكريس المستقل له شرط النجاح في تحييد تنميطه مرة أخرى، الجسد الذي أتلبسه كمثال هو الآخر تعرض للتنميط لكنه يحمل في داخله مجسات الرفض، جسد يترقب ومستفز لذلك لا يستقر بوجود مكان محدد لأن المكان المحدد هو تعر يف آخر لهوية مستضافة وهذا يقمع التودد للحريات. أنا أعيش يوميا عالما افتراضيا عبر التواصل الافتراضي ويخيل إليّ في أغلب الأحيان أنني جسد متخفف من أثقال الوجود الحقيقي لذلك لدي توق دائم لابتكار جسد فاضل، جسد متخفف من أثقال تعيق طيرانه، وفي الطيران كما تعر ف لذة المعيش الافتراضي”.
ويوضح أكثر “هذا الجسد الموجود في أعمالي ليس إلا من وسائل التعلق بالواقع لأنني أزحت كل ما يتعمد إعاقته وتحرره، جسد افتراضي بامتياز وهو ما أسعى إليه في كونه يعطي صورة للمتلقي تردم مطبات كثيرة تعترض فهمه والتعايش معه ودعمه، جسد افتراضي خارج سلطة التنميط، وخارج سلطة الاجابات الجاهزة، جسد مثير للتساؤلات متحد، يسبح في عالم بلا حدود ولا مكان لتعريفه وإذا كنت قد نجحت في تقديمه هكذا فإنني أكون قد ساهمت في تحفيز تمرد”.
الميديا والشكل

يرى سعدون أن الميديا الآن هي نوع من أنواع السلطة والتي تحدد شكل الجسد وتعمل على رسم صورة الآخر الجديدة. هذه السلطة ستغير نوع التنميط الذي يجري على الجسد لأنها تبتكر الأكثر نعومة، والأكثر تقبلا والأكثر إغراء، جيلنا نحن كمن يضع قدما في مكان وأخرى في مكان آخر، فسلطة الرفض تنبثق في مثل هذا الحال، لا مفرد من استغلال ممكنات الحرية التي توفرها الميديا والتي تطلق تمثلات متعددة لها كما لا يمكن رفض الاختصارات المدهشة والإلغاء التي تمنحنا إياها، فهي تمارس إلغاء للمكان وللزمان وتحجيما واختصارات للزوائد الملتحقة بالجسد، وستمارس تحجيما للأدوات التي تفترضه هو مختزل بشكل كبير.
ويقول “ما يهمني كفنان هو نمط الحرية الذي تخضعني له والذي يمكن لكل فنان أن يبتكر من خلاله نمط المعيش ونمط الإنتاج كون الإنتاج الجديد سريعا ومختزلا ويحيل إلى استخدام أدوات سهلة وأيضا متمردة على سلطة الفنان. تمنحني الميديا الجديدة فرصا للتوحد مع الذات لا تنجو من سلطة الآخر في كل الأحوال، ولكنها تشكل واقعا افتراضيا مدهشا أعيش فيه تنميطا جديدا مقبولا لديّ، ففيه إمكانات للمعيش جسدا افتراضيا متحللا من التزامات اليومي، جسد يلغي المكان والزمان في اللحظة ذاتها كما يتيح تواصلا مدهشا مع آخر هو أنا أيضا، الجسد الجديد واع لكل التشكلات الافتراضية ومتقبل لها، كما أنه يعلن استعداده اليومي لنسيان افتراضات الدرس الأكاديمي وتلك الغواية تحرر الوعي من أحراشه، الافتراض الآن يمنحنا فرصة التفكيك والانتقاء”.
كريم سعدون فنان تشكيلي ما بعد تجريبي اجتهد في عصرنة جسده البصري بما يملك من ثراء معرفي وفرجوي
وفي حوار آخر يشير سعدون موضحا رؤيته لعمله الفني “في العمل الفني الذي أنتجه أحاول أن أستعير آلية عمل الحفار في تشكيل السطح وفي تلوينه، هذه الآلية تتيح لي اشتغالا مناسبا لما أريد تقديمه لمتلق يسعى لاستكشاف بنية العمل الشكلية أولا فهي مدخل لتفعيل حوار معه ومحاولة فهمه، قد يتأتى ذلك من اشتغالي الطويل في الإنتاج الغرافيكي بمختلف طرائقه وحنيني الدائم له، وأشعر فعلا أنني أعمل على استدراج قيمة أثر مرورنا على جسد المكان فهو يكتنز تعبيرات علامية مدهشة أو بتعبيرك ـ يقصد ما ورد في سؤال المحاور ـ الهائل يصبح العمل مثل ‘جدار يحفه العابرون بأجسادهم’، وهذا هو ما أسعى إليه رغم أنه يمثل مصدر قلق دائم، ولكنه من جانب آخر يوفر السكينة ليصبح ما أعمله سمة لنتاجي الفني، ولكونه مصدرها هو ما يقترحه المتلقون له أيضا فإن حرصا يتكون لديّ ويعيش معي ليديم فعالية التلقائية في الأداء”.
ويشرح “كل ما أسعى إليه أن يكون الفراغ الذي أتلمسه، قد يحسبه المتلقي العابر في بعض الأحيان خاليا من الأثر، فضاء اشتغال بموجودات لا تعيق حضور الدلالة ولكن تزيد من طرق الوصول إليها لذلك لا أستغني عن أي إجراء لإظهار ما أريد ولا أمتنع عن استخدام أي مادة في عملي طالما فيها طاقة تعبيرية قد لا أجدها في مواد أخرى ولا أكترث كثيرا لديمومة عمر العمل فلا أعمل لأديم حضورا متحفيا لعملي”.
ويؤكد “لا أمتنع عن استخدام أي مادة ودون النظر إلى قيمة مكونها طالما أشعر بأنها تفعل طاقة تعبيرية وتمتلك أسرارا، يعجبني العمل على الورق القديم أو الذي جرى تدويره وأبحث عن بقايا كتابات أو علامة اندثر جزء منها وأعمل على تعتيق بعضها ويكون العمل الواحد بطبقات متعددة تشد بعضها البعض ولا تلغيها، وهذا متأت بلا شك من بغداد فهي مدينة معتقة وكما المدن العتيقة فلو حاولت الحفر فيها لبناء جدار جديد ستجد تحته جدارا أقدم منه. وفي جزء المدينة القديم تجد جدرانا فيها اشتغالات تعبيرية هائلة والكثير منها هو من أثر المارة عليها والتلقائية في هذه الاشتغالات لا بد وأن تؤثر في من يمر بها يوميا مرور المندهش والمتأمل وليس مرورا عابرا ورغم اشتغال الكثير من فنانينا يقودهم الفنان الرائد شا كر حسن آل سعيد وتنظيراته في الأثر وحضوره في أعماله الحديثة كثيمة دائمة، إلا أن ذلك شكل عندي استحضارا لجسد المدينة التي أحلم بها ويفتقدها الشخص الجالس الذي ينظر إلينا ويراقبنا”.
ويضيف “في أعمالي، أستخدم أدوات قد تكون غير مألوفة في رسم الشخصيات وهذا أعتقده محاولة لاستعارة الخطوط التلقائية وجروح جدران المدينة حتى التشويهات التي طالتها بسبب الحروب وتركت ندبا فيها، ومن جهة أخرى فإن النظر المتفحص في الكيفية التي يشتغل فيها بعض الفنانين المؤثرين والتعمق في دراسة خطوطهم دفعتني لأن أكون متأنيا ومهتما بالخط الذي شكل عماد تجربتي ولو تفحصت الخط في أعمالي لوجته متشكلا من أكثر من طبقة أيضا وأكثر من اشتغال”.


