الفلسفة والثقافة
تعلن الثقافة عن نفسها على إنها سلوكٌ واطلاعٌ وتبحّرٌ واستطلاعٌ وأثرٌ وتأثير.. وهي محصلةٌ ومحطةٌ ونتاجٌ وحصاد مرانٍ وتجربةٌ واستغراقٌ وتأمل، مثلما تعلن الفلسفة عن نفسها على أنها البحث عن إشكاليات الحياة بما فيها إشكاليات وجود الإنسان وتلمّس واقعه، وهي بمعنىً آخر البحث عن الجواب لسؤال الفلسفة العميق “لماذا”.
وهي كما قال أرسطو ترتبط بماهية الإنسان كونه يرغب بالمعرفة، والمعرفة تبدأ بسؤالٍ مثلما تبدأ الثقافة بالحفر لمعرفة الذات والإجابة على الذات في إيجادها للسؤال لكي يتم طرحه من أجل التبحّر والاطلاع العميق في مجريات الحياة.
ولهذا لا فلسفة بدون ثقافةٍ ولا ثقافة بدون معرفةٍ وإجابةٍ وسؤالٍ وهي بهذا في حاجةٍ إلى فلسفة التكيّف مع الذات وماهية الوجود ومفعول الثقافة كونها الأداة الفعّالة لفهم معنى السؤال وإيجاد طريقةٍ لطرح الإجابة وفق معطيات العصر الذي يتم فيه طرح السؤال.
إن الخطوة الأولى لإدراك الحياة هي الوعي بماهية الكينونة والجمال والقبح والعذاب والحزن والحب والفرح وكلّ المتناقضات التي تغلّف الذات والكينونة المهمّة في ترتيب البيت الذاتي.
ولأن الجمال روحٌ والفلسفة إحساسٌ فإنّ الثقافة هي القاسم المشترك الأعظم لكلّ هذه الماهيات. لا معنى للفلسفة دون إدراك لماهية ترتيبها لكي تكون مشاعةً وقادرةً على الإجابة على سؤالها الأزلي “لماذا”. بدون ثقافة سلوك لا معنى لطبيبٍ نفسي لا يدرك خطورة العلاج فيكون هو مجنونٌ، لا أهمية له في العلاج لأنّ علاجه لن يكون ناجعاً بل له تأثيرات سلبية.
ولهذا فإنّ الثقافة هي لملمة المتناقضات لوضع الطريق وتوضيح خرائطه. وإذا ما كانت الفلسفة هي الحديث عن “الارتباطات القائمة بين الأفراد والطبيعة وبين الشخص والمجتمع والفلسفة نابعة من الاستغراب وحب المعرفة والاستطلاع والاكتشاف والرغبة في المعرفة والبحث” فإن الثقافة هي روح هذا الحديث لأنّه حلقة الوصل بين الإنسان والطبيعة لكي تتمكّن الفلسفة من الإجابة على معطياتها.
وإذا ما كان أرسطو قد قال “إن الفلسفة ترتبط بماهية الإنسان التي تجعله يرغب بطبيعته في المعرفة” فإن الموازين تحتاج إلى عدالة الطبيعة. ولهذا يكون العقل هو الاتزان في المعرفة وهو الذي يضع التساؤل أمام الفلسفة لكي لا يصنع الأزمات كما يقول البعض في مفهوم الفلسفة، بل ليخصّ رؤىً وأفكاراً تنير الطريق وتزيل الاتهامات المتوتّرة في عمليات التفاقم المتراتبة بين العقل الإنساني الخالق للجمال والآخر المضاد له.
ولذا فإن الفلسفة قد تقدّم اقتراحات لحلولٍ أو تقدّم حلولاً لمعضلات، ولكن القابل لها والمتقبّل منها المرسل له يحتاج إلى ثقافةٍ إذا ما عدّت الفلسفة هي المرتبة العليا في تراتبية الثقافة التي تبدأ من المعرفة بالأشياء والأخذ من كلّ شيءٍ جزءاً من المعرفة دون الخوض في تفاصيل الجوانب الأخرى وربما هي لا تحتاج إلى طرح أسئلةٍ وتكرارها وتناسلها، في حين تعنى الفلسفة بهذه العملية التناسلية التكاثرية في طرح الأسئلة لأن الواقع بدأ بسؤال ولم يزل يبحث عن إجابة.
إن الحلقة الرابطة بين الثقافة والفلسفة هي الوعي بالأمور وإن هناك مفتاحاً مهماً في حقل الفلسفة وهو العقل وهناك حقولٌ مهمةٌ وواسعةٌ بالثقافة التي تعني العقل أيضا. لذا فإن المحاولة في التنظير المهم إلى أن الإشكالية الكبرى هي أن الفلسفة تخلص إلى إيجاد إجابةٍ نظرية في حين تسعى الثقافة إلى تأطير هذه الإجابة لمعرفتها وتحويلها إلى ميدانٍ عملي.
بمعنى أن الفلسفة قد تلجأ إلى التوفيقية في الإجابة أو التقارب بين المسلمات أو حتى إلى إيجاد المشكل بينها، لكن الثقافة هي المحور الأساس الذي نراه في أهمية هذه التوفيقية أو الاستجابة للتقارب والتأكيد على المسلمات لأن الفلسفة إذا كانت إنتاجا فكرياً فإن المتقبّل لها هو المتلقي الذي يفترض أن يكون مثقفاً لكي يقتنع ويقبل ويرضى سواء بتوافقية الفلسفة أو بالاستجابة لها.
كاتب من العراق