"الفلسفة في الجسد".. كتاب يغير جذريا مفهومنا للفكر والإنسان

الفيلسوفان وعالما اللغويات ليكوف وجونسون: الفكر مشكل بالجسد.
الأربعاء 2023/10/18
الفكر ناشئ من الجسد ولا يتجاوزه (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

تجاهلت الفلسفة لقرون طويلة دور الجسد ومحوريته، إلى أن هشم الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه المثل التي تهمل الجسد واضعا إياه في صدارة عملية التفكير، ولكن ذلك لا يكفي كما سنقرأ في أطروحة الفيلسوفين الأميركيين جورج ليكوف ومارك جونسون اللذين يعطيان الجسد مكانة صانع الأفكار الحقيقي.

يعد مشروع الفيلسوفين وعالمي اللغويات الأميركيين جورج ليكوف ومارك جونسون في كتابهما الموسوعي والذي عنوناه بـ “الفلسفة في الجسد.. العقل المجسدن وتحديه للفكر الغربي” وترجمه وقدم له المفكر والمترجم طارق نعمان، الأهم والأبرز في مناقشة وتحليل رؤية الجسد وعلاقته بالعقل واللغة في الفكر الفلسفي الغربي، وإعادة التفكير في ما يمكن أن تصير إليه الفلسفة، ودراسة العلم المعرفي للأفكار الفلسفية الأساسية، ودراسة الفلسفة من منظور العلم المعرفي.

يقول المترجم في مقدمته للكتاب، الصادر عن المركز القومي للترجمة في جزأين، “في ‘الفلسفة في الجسد‘ أو بالأحرى في ‘الفلسفة في اللحم‘، يحوّل المفكران ليكوف وجونسون ترسانة مفاهيم وإجراءات ودراسات اللغويات المعرفية والعلم المعرفي إلى جهاز نظري فعال وناجز لقراءة تراث الفلسفة الغربية، على نحو يتيح لنا أن نصبح على ألفة بأدبيات اللغويات المعرفية والعلم المعرفي بقدر ما يتيح لنا أن نعيد قراءة التراث الفلسفي الغربي من منطلقات طازجة وجديدة. هذا في الوقت الذي يبرهنان فيه برهنة دامغة على معرفية الجسد وجسدية المعرفة، ودور الوعي اللاوعي المعرفي في التكفير واستعارية المفاهيم”.

الفكر تطوري

الكتاب يناقش رؤية الجسد وعلاقته بالعقل واللغة في الفكر الفلسفي الغربي معيدا التفكير فيما ستصير إليه الفلسفة
الكتاب يناقش رؤية الجسد وعلاقته بالعقل واللغة في الفكر الفلسفي الغربي معيدا التفكير فيما ستصير إليه الفلسفة

ينطلق ليكوف وجونسون من ثلاثة مبادئ برهنت عليها الأدلة المتآزرة للعلم المعرفي من الدراسات الإمبريقية (التجريبية) في العديد من المجالات، وهي: العقل مجسدن بشكل متأصل، التفكير غير واع في معظمه، المفاهيم المجردة استعارية على نطاق واسع.

ويقولان “هذه ثلاث نتائج أساسية للعلم المعرفي. ذلك أنه قد انقضت أكثر من ألفيتين من التأمل الفلسفي القبلي حول هذه الجوانب من العقل. وبسبب هذه الاكتشافات، لا يمكن للفلسفة قط أن تعود كما كانت من قبل مرة أخرى”.

ويضيفان “حين يتم أخذ هذه النتائج الثلاث معا ويتم تناولها بالتفصيل كنتائج لعلم العقل تبدو غير متوافقة مع المكونات المركزية للفلسفة الغربية. إذ أنها تقتضي إعادة تفكير شاملة لأكثر المقاربات الراهنة شهرة وشيوعا، نعني الفلسفة المابعد حداثية. وكتابنا هذا يتساءل: ماذا سيحدث إذا ما بدأنا بهذه الاكتشافات الإمبريقية حول طبيعة العقل والفلسفة المبنية مجددا؟ والجواب هو أن الفلسفة مسؤولة إمبريقيا ستتطلب من ثقافتنا أن تتخلى عن بعض افتراضاتها الفلسفية الأعمق، وهذا الكتاب هو دراسة موسعة لما ستكون عليه العديد من تلك التغييرات بالتفصيل“.

ويتابع الفيلسوفان “إن فهمنا لما هو العقل هو أمر مهم أهمية عميقة، إذ أن أكثر معتقداتنا الفلسفية محورية على نحو لا ينحل برؤيتنا للفكر. وقد فهم الفكر لما يزيد عن ألفيتين بوصفه الخاصية المحددة للكائنات الإنسانية، فالفكر لا يشمل فقط قدرتنا على الاستدلال المنطقي، وإنما أيضا قدرتنا على أن نجري بحثا، وأن نحلّ مشكلات، وأن نقيّم وأن ننتقد، وأن نتدبر كيف ينبغي أن نسلك وأن نصل إلى فهم لأنفسنا ولأناس آخرين وللعالم. ولذلك السبب يعد أيّ تغيير جذري في فهمنا للفكر تغيرا جذريا في فهمنا لأنفسنا. وإنه لمن المدهش أن يكتشف، انطلاقا من البحث الإمبريقي، أن العقلانية الإنسانية ليست على الإطلاق على النحو الذي اعتقد التراث الفلسفي الغربي أنها عليه. إلا أنه لمن الصادم أيضا أن يكتشف أننا مختلفون جدا عما أخبرنا تراثنا الفلسفي أننا عليه”.

ويوضحان أن الفكر ليس غير مجسدن، كما تصور التراث على نطاق واسع، وإنما ينهض من طبيعة أمخاخنا وأجسادنا وخبراتنا الجسدية، إذ أن دعوى أننا نحتاج جسدا لكي نفكر ليست بالدعوى المحمودة والواضحة تماما، بل إن القول بأن البنية الفعلية الخاصة بالفرد ذاته تأتي من تفاصيل تجسدننا يمثل دعوة صادمة. كما أن الآليات العصبية والمعرفية التي تمكننا من أن ندرك ونتحرك تخلق أيضا أنساقا وأساليب الفكر؛ ومن ثم لكي نفهم الفكر يجب أن نفهم تفاصيل نسقنا البصري، ونسقنا الحركي والآليات العامة للربط العصبي.

باختصار ليس الفكر، على أيّ نحو، سمة مفارقة للكون أو سمة لعقل غير مجسدن. إنما هو بدلا من ذلك مشكّل على نحو حاسم بخواص أجسادنا الإنسانية، بالتفاصيل اللافتة للبنية العصبية لأمخاخنا وبخصوصيات اشتغالنا اليومي في العالم. إن الفكر تطوري، حيث أن الفكر المجرد يبني على أشكال الاستدلال الإدراكي والحركي الحاضرة في حيوانات “أدنى” ويفيد منها. والنتيجة هي داروينية الفكر، داروينية عقلية: إن الفكر حتى في أكثر أشكاله تجريدا، لا يتعالى على طبيعتنا الحيوانية، بل إنه يفيد منها. ومن ثم فإن اكتشاف أن الفكر تطوري يغير كلية علاقتنا بحيوانات أخرى ويغير تصورنا للكائنات الإنسانية بوصفها عاقلة على نحو متفرد، فالفكر ليس إذن هو الجوهر الذي يفصلنا عن حيوانات أخرى وإنما هو ما يضعنا على متصل معها.

ويرى ليكوف وجونسون أن الفكر ليس كونيا بالمعنى المفارق، أي ليس جزءا من بنية الكون. إلا أنه، مع ذلك، كوني بما هو مقدرة مشتركة كونيا لدى كل الكائنات الإنسانية. وما يتيح له أن يكون مشتركا هو الخواص المشتركة التي توجد في الطريقة التي تكون بها عقولنا مجسدنة.

ويضيفان “إن الفكر ليس واعيا بشكل كامل، وإنما غير واع في معظم الأحوال. إن الفكر ليس حرفيا بشكل خاص، وإنما استعاري وخيالي على نطاق واسع. إن الفكر ليس منعدم الشعور، وإنما متورط وجدانيا. ولهذا التحول في فهمنا لما نحن ككائنات إنسانية. إذ أن ما نعرفه الآن عن العقل مخالف جذريا للرؤى الفلسفية الكلاسيكية الرئيسية لما هو الإنسان. على سبيل المثال، ليس ثمّة إنسان مزدوج ازدواجا ديكارتيا، ذو عقل منفصل ومستقل عن الجسد، يشارك كل شخص آخر سواه الفكر المتعالي غير المجسدن نفسه بالضبط، ويكون قادرا على معرفة كل شيء خاص بعقله /أو عقلها/ ببساطة من خلال التأمل الذاتي، بل إن العقل أصليا مجسدن، والفكر مشكل بالجسد، وبحكم أن معظم التفكير لا واع فلا يمكن للعقل أن يكون معروفا ببساطة بالتأمل الذاتي، ولذا فالدراسة الإمبريقية ضرورية”.

عقول مجسدنة

اكتشاف أن الفكر تطوري يغير كليا علاقتنا بحيوانات أخرى ويغير تصورنا للكائنات الإنسانية بوصفها عاقلة على نحو متفرد
اكتشاف أن الفكر تطوري يغير كليا علاقتنا بحيوانات أخرى ويغير تصورنا للكائنات الإنسانية بوصفها عاقلة على نحو متفرد

يشير المفكران إلى أنه لا يوجد إنسان كانطي مستقل جذريا، ذو حرية مطلقة وفكر متعال يملي على نحو صحيح ما هو أخلاقي وما ليس أخلاقيا، فالفكر ناشئ من الجسد ولا يتجاوز الجسد. وعلاوة على ذلك، في ما أن الأنساق التصورية تتنوع تنوعا دالا، فإن الفكر ليس كليا بشكل كامل. وبما أن الفكر مشكل بالجسد، فإنه ليس حرا حرية جذرية؛ لأن الأنساق التصورية الإنسانية الممكنة والأشكال الممكنة للفكر محدودة. وإضافة إلى ذلك، فما أن نتعلم نسقا مفهوميا ما حتى يغدو عصبيا، ممثلا في أمخاخنا، ولا نصبح أحرارا في أن نفكر في أي شيء كيفما اتفق. ومن ثم، فإننا لا نملك حرية مطلقة بالمعنى الكانطي، ولا استقلالا تاما. فما

من قبلية، وما من عقل فلسفي على نحو خالص لمفهوم كلي للأخلاق، وما من فكر متعال كلي خالص بحيث يمكنه أن ينتج قوانين أخلاقية كلية. ويبيّنان أن الإنسان النفعي الذي تكون العقلانية بالنسبة إليه عقلانية اقتصادية ـ أي الحد الأقصى من المنفعة ـ لا يوجد هو الآخر. فالكائنات الإنسانية الحقيقية لا تكون في أغلب الحالات في

سيطرة واعية أو حتى منتبهة بشكل واع لتفكيرها. إذ أن معظم فكرها، بخلاف ذلك، مؤسس على أنواع عديدة من النماذج الأولية، والتأطيرات والاستعارات. إذ قلما ينخرط الناس في شكل من الفكر الاقتصادي يمكنه أن يبلغ بالمنفعة أقصى حد لها.

أما الإنسان الفينومينولوجي، الذي يمكنه عبر الاستبطان الفينومينولوجي وحده أن يكتشف كل شيء يمكن له أن يعرفه حول العقل وطبيعة الخبرة، فإنه تخييل. إذ على الرغم من أنه يمكن أن يكون لدينا نظرية للاوعي معرفي عريض وفاعل بشكل سريع وأتوماتيكي، فليس لدينا مدخل واع مباشر لتشغيله، ولذلك ليس لدينا مدخل لمعظم تفكيرنا، فالاستكناه الفينومينولوجي وإن يكن قيما في كشف بنية الخبرة، يجب أن يتم إكماله بالبحث الإمبريقي في اللاوعي المعرفي.

لا يوجد إنسان كانطي مستقل جذريا، ذو حرية مطلقة وفكر متعال يملي على نحو صحيح ما هو أخلاقي وما ليس أخلاقيا، فالفكر ناشئ من الجسد ولا يتجاوز الجسد.

كما لا يوجد، في رأيهما، إنسان ما بعد بنيوي، فما من ذات مزاحة كلية عن المركز وكل معنى بالنسبة إليها اعتباطي ونسبي بشكل كامل، وتاريخيا صدفوي تماما، غير مقيد بجسد أو مخ. فالعقل ليس فحسب مجسدنا بطريقة تعتمد فيها أنساقنا التصورية إلى مدى بعيد على الخصائص المشتركة لأجسادنا وللبيئات التي نعيش فيها. والمحصلة هي أن قدرا كبيرا من النسق التصوري للشخص إما كوني أو واسع الانتشار عبر اللغات والثقافات. وهكذا فإن أنساقنا التصورية ليست نسبية بشكل كامل وليست نتاج مجرد صدفة تاريخية، هذا على الرغم من أنه لا توجد درجة من النسبية التصورية وأن الصدفة التاريخية تلعب دورا غير قليل. كما يخلق أساس أنساقنا التصورية القارة في التجسدن المشترك والخبرة الجسدية ذاتا متمركزة إلى حد بعيد إلا أنها ليست ذاتا متحجرة.

ويتابع الفيلسوفان الأميركيان أنه ما من إنسان فريجي ـ على النحو الذي تطرحه الفلسفة التحليلية ـ الفكر بالنسبة إليه منزوع عن الجسد. أي أنه ما من إنسان حقيقي لا يلعب تجسدنه دورا في المعنى، ومعناه موضوعي بشكل خالص ومحدد بالعالم الخارجي، وتستطيع لغته أن توافق العالم الخارجي دون أن يلعب العقل أو المخ أو الجسد دورا مهما فيها. لأن أنساقنا التصورية تنتج من أجسادنا، والمعنى مؤسس في أجسادنا وعبرها.

ولأن نطاقا هائلا من مفاهيمنا استعاري؛ فإن المعنى ليس حرفيا بشكل كامل، ونظرية مطابقة الحقيقة الكلاسيكية زائفة. ذلك أن نظرية المطابقة تتصور أن العبارات صادقة أو زائفة موضوعيا اعتمادا على الكيفية التي ترسم بها مباشرة في العالم بشكل مستقل عن أيّ فهم إنساني سواء للعبارة أو للعالم.

 وعلى العكس من ذلك، فإن الحقيقة متوسطة بالفهم المجسدن والخيال. ولا يعني ذلك أن الحقيقة ذاتية بصورة خالصة أو أنه ما من حقيقة مستقرة. وإنما على العكس من ذلك، يتيح تجسدننا المشترك حقائق مشتركة مستقرة. كما أنه ليس هناك شيء من قبيل الإنسان الكمبيوتري، عقله مثل القرص المرن للكمبيوتر قادر على أن يعمل على أيّ كمبيوتر سليم أو برمجية عصبية أساسية، يستخلص عقله المعنى من اتخاذ رموز لا معنى لها بوصفها مدخلات، يعالجها وفقا للقواعد ويعطيها رموزا لا معنى لها كمخرجات.

ويؤكدان أن البشر الحقيقيين لهم عقول مجسدنة “تنشأ من وتتشكل بـ..” وتعطي معنى عبر أجساد إنسانية حية. كما أن البنى العصبية لأمخاخنا تنتج أنساقا تصورية وبنى لغوية لا يمكن أن تكون مفسرة تفسيرا وافيا بالأنساق الشكلية التي لا تتعامل إلا مع الرموز فحسب. إن التصورات الفلسفية الكلاسيكية قد أثارت أخيلتنا وعلمتنا الكثير، لكن ما أن ندرك أهمية اللاوعي المعرفي وتجسدن العقل والتفكير الاستعاري حتى لا يعود بإمكاننا العودة قط إلى تفلسف قبلي حول العقل واللغة أو إلى الأفكار الفلسفية عما هو الإنسان التي تكون متوافقة مع ما نتعلمه عن العقل.

13