الفكر الأزهري.. متى يهجر منطق المعاجم ومنطقتها؟

الجسارة أن يُعلن رسميا أن "المرأة إنسان" فلا نتحدث عن حشمة ثيابها إلا مقترنة بحشمة ثياب الرجل.
الأربعاء 2021/05/12
متى يتم الكف عن ملاحقة المرأة بالفتاوى

كأن المرأة المسلمة كانت تتلهف شوقا إلى نسمة أزهرية تخفف من لهيب صيف 2021، فأتى تصريح الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر تحصيل حاصل وإقرارا متأخرا جدا بأمر واقع تخلف فيه المسلمون عن غيرهم خطوات، وتخلفت فيه مصر وبلاد عربية خطوة عن دول إسلامية لم تنتظر فيها المرأة فتوى “شرعية” تمكنها من تولي منصب قضائي، أو رئاسة الدولة. الكنيسة أكثر شجاعة، باعترافها بخطايا الأسلاف، وردّها الاعتبار إلى الضحايا. الاعتذار فضيلة، وتجنّبه يفتح الباب على النكوص، والعودة إلى أصول فقه تحريمي لم تتمكن سهامه من إصابة عقول المسلمين في الشرق الأقصى، فحققوا تقدما إنسانيا يدين معاقل للجمود تتخيل لنفسها سلطة المنح والمنع.

في السابع من مايو 2021 قال شيخ الأزهر «الجدل الفقهي المتعلق بعدد من القضايا المعاصرة التي كان للمرأة النصيب الأكبر منها: فيجوز للمرأة تولي الوظائف العليا والقضاء والإفتاء، والسفر دون محرم متى كان سفرها آمنا، والطلاق التعسفي بغير سبب معتبر شرعا حرام وجريمة أخلاقية‏، ولا وجود لـ’بيت الطاعة’ في الإسلام، ولا يحق للولي منع تزويج المرأة برجل كفء ترضاه دون سبب مقبول، وللمرأة أن تحدد لها نصيبا من ثروة زوجها إذا كانت سببا في تنمية هذه الثروة‏». كلام طيب يقول باختصار «المرأة إنسان»، وفرح الكثيرون بهذا الفتح الذي ينطوي على ألغام قد يفجرها مستقبلا كلام كتبه الرجل قبل ذلك بخمسة أيام.

ففي الثاني من مايو 2021 كتب شيخ الأزهر بخط يده «لم يكن تراث الأمة الإسلامية ـ في يوم من الأيام ـ عائقا لها عن التقدم والتألق، والأخذ بأسباب القوة والعزة والمنعة، وكذلك لم تكن السنة النبوية المطهّرة حجر عثرة في طريق بناء مجتمع متماسك يتمتع أفراده بخيرات الدنيا والآخرة. وعلى المسلمين أن يقرؤوا تاريخهم بعين بصيرة، وقلب سليم. ليتعلموا ـ من جديد ـ كيف يزاحمون شعوب العالم المتحضر، ويأخذون مكانهم بين صفوفها».

في القصف «الفقهي» لن نعدم حربا للنصوص، يحتج بها فريق ويدين الآخر ويخطّئه. نصوص مصدرها «تراث الأمة» الذي كان يحرّم حتى الوضوء من ماء «الحنفية»، حتى أحلّه مفتي «الحنفية».

الذين ابتلعوا ألسنتهم في الحجاز، بعد السماح للمرأة بحقوق كانت خيالا، وكفّوا عن ملاحقتها بالفتاوى «الشرعية»، يذكرونني بضباط شرطة سارعوا إلى إطلاق لحاهم بعد ثورة 25 يناير 2011.

أنزّه مؤسسة الأزهر على الرضا بموقع المعاجم. التجديد اللغوي يؤكد حيوية الأمم، وكل فتح في الفنون والمعارف الإنسانية والعلوم يقترن به جديد لغوي لا ينتظر البحث عن وجود الكلمات في المعجم. قوة الأمم تتساوى فيها ثمار المعامل والمصانع، وعائدها اللفظي التداولي، والابتكارات التي تصون اللغة وتغذّيها. وقد يمرّ وقت طويل حتى يفيق علماء اللغة وكهنة المعاجم، ويرضوا عن ألفاظ كبرت بين الناس في الشوارع، ويضيفوها على كره منهم إلى المعاجم. علماء اللغة بطبعهم محافظون، والجسورون هم الخالقون على غير مثال لابتكار تكنولوجي، أو تعبير أدبي. ولا حرج على الأب أن يمنح ابنه ما يشاء من أسماء. ولهؤلاء الآباء تخضع المعاجم.

تحفل المعاجم بالآلاف من الألفاظ الميتة. هناك ألفاظ تُعاد إليها الروح، والروح هاربة من خزائن علماء اللغة الذين يسجلون المواليد، بعد تجاوز سن الرشد. لا يستطيع بثّ الروح إلا المغامرون من الشعراء والكتاب. وكان الشدياق من الرواد، وسبقه الجبرتي إلى جسارة الاشتقاق. والجسارة هي معيار الحكم على من ينقُض تاريخا، ويطويه طيّ السجل، ويعلن فتح صفحة جديدة لا تخضع لإكراهات المعاجم، وإنما لنبض حياة لا تنتظر فتوى تحكم على المتغير النسبي بالثابت المطلق. الجسارة أن يُعلن رسميا أن «المرأة إنسان»، فلا نتحدث عن حشمة ثيابها إلا مقترنة بحشمة ثياب الرجل، وكذلك الأمر بخصوص إباحة سفر الرجل «متى كان سفره آمنا».

من المفارقات أن تكون ألمانيا تحت حكم أنجيلا ميركل أكثر دولة تستقبل مهاجرين هاربين من الدكتاتوريات العربية والإسلامية. حضرت المصلحة فاختفى «فقه المرأة»، وتغاضوا عن نزول اللعنة على الأمة التي تحكمها امرأة، وفقا لما حفظه لنا «تراث الأمة الإسلامية» الذي يفخر به شيخ الأزهر على إطلاقه. قبل نحو خمسين عاما تمّ تكفير الدكتورة نوال السعداوي؛ لقولها إن ختان الإناث جريمة. لم تتكلم فقها بل علما، وامتدت اللعنة من الشيوخ إلى وزارة الصحة ذات العمامة، وفصلت الطبيبة من عملها. وبعد مؤتمر السكان بالقاهرة عام 1994، تصدى لمشروع حظر ختان الإناث شيخُ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق القادم من منصب المفتي.

قضت الحداثة أن تمضي الأمور في اتجاه واحد، إلى المستقبل. وفي عام 2008 تم تجريم ختان الإناث رسميا بمادة في قانون العقوبات، ولم نسمع صوتا لأساتذة الشريعة وشيوخ أيدوا الشيخ جاد الحق عام 1994، وانضم اجتهاد جاد الحق وأنصاره إلى «تراث الأمة الإسلامية». تراث معجمي يُميته عدم استعماله، ولن يجد هذا التراث رجلا رشيدا يعتذر إلى المصريات من ضحاياه. فقه الواقع أكثر إنسانية وحيوية مما يعلنه الأزهر بعد الظهر، فالحياة تبدأ فجرا. وربما يتاح لجيلنا الاطلاع على مجلدات حفظت أنواع التحريمات على المرأة في الحجاز، ثم صدقت مقولة عثمان بن عفان «الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، فرفعت الأقلام.

الذين ابتلعوا ألسنتهم في الحجاز، بعد السماح للمرأة بحقوق كانت خيالا، وكفّوا عن ملاحقتها بالفتاوى «الشرعية»، يذكرونني بضباط شرطة سارعوا إلى إطلاق لحاهم بعد ثورة 25 يناير 2011. الخيال الانتهازي اختصر ثورة تنشد العدل والحرية في إطلاق اللحية. ثم اختفت اللحى وأصحابها. الفورة الدينية اليمينية أغرت رئيس نادي القضاة أحمد الزند عام 2012 بقوله إن القضاة «يتوقون للعمل بأحكام الشريعة.. ويجب أن يتم حل مشكلة الحدود المعطلة». وبعد انتخاب محمد مرسي رئيسا طالب الزند من الحرم المكي، وهو يرتدي ملابس الإحرام بأن تكون «الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع». آن للحداثة أن تكون مشروع دولة تتخلّى عن الكاب والعمامة معا.

13