الفضول المعرفي وسيلة للإعلان عن انتمائنا للعائلة الإنسانية

في كتابه "من الفضول"، يواصل الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل شرح أسرار شغفه بمطالعة الكتب التي رافقته طوال حياته، وكرس لها كل وقته سعيا إلى حل ألغاز العالم وتعقيداته، وكيف أنه راض عن فضوله الخاص لمعرفة خصوصيات مبدعي العالم، وهو يؤكد في كتابه هذا فضائل الاتفاق على أن الفضول والقراءة من أهمّ الإنجازات المثمرة التي نحتفظ بها في خيالنا.
ويذهب صاحب “تاريخ القراءة”، و“مكتبة الليل” في جديده الصادر مؤخرا عن دار النشر الفرنسية “آكت سود” إلى أن قصده من الفضول هو ذاك الشغف المعرفي الذي يرافق الإنسان من بداية حياته إلى نهايتها. ويحتوي الكتاب، الذي ترجم إلى لغات عدة، على خمسة عشر فصلا، جميعها كان على شكل أسئلة مثل “ماذا نريد أن نعرف؟”، و“من أنا؟”، و“لماذا تحدث الأشياء؟”…
السؤال الكبير
يرى ألبرتو مانغويل المولود في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس عام 1948، ونشأ بين كتب الراحل خورخي لويس بورخيس، أن الفضول هو أساس كل الحضارات التي تعاقبت على الإنسانية منذ بدء الخليقة. ومثل ما هو حاله في كتابيه “تاريخ القراءة”، و“مكتبة الليل”، يحيل مانغويل القارئ إلى فلاسفة ومفكرين وكتاب وشعراء من مختلف العصور والثقافات والحضارات، مثل دانتي وأرسطو وسينيك وشكسبير وتوماس الأكويني وفرجيل وغيرهم، كما يشير إلى بعض ما ورد في الكتب السماوية وإلى مظاهر من ثقافات الشعوب البدائية.
في مقدمة “من الفضول”، يؤكد ألبرتو مانغويل أن شغفه بالمعرفة هو الذي دفعه إلى البحث في المعنى الحقيقي والعميق للفضول، إذ يقول “من بين الكلمات التي نتعلمها منذ النشأة الأولى كلمة لماذا.
ألبرتو مانغويل يقصد في كتابه "من الفضول" هذا الفضول المعرفي الذي يرافق الإنسان من بداية حياته إلى نهايتها
ماذا أعرف
يعتقد مانغويل أن الفيلسوف الفرنسي ميشال دو مونتاني (1533-1592) هو الذي طرح السؤال الذي يلخص كل ما يتصل بالفضول، وهذا السؤال هو "ماذا أعرف؟"، ولعل المصدر الحقيقي لهذا السؤال هو القولة الشهيرة لسقراط "اِعرف نفسك بنفسك".
ومتحدثا عن علاقته المعرفية بمونتاني، يذكر المؤلف أن الصداقة التي تربطه به تعود إلى فترة المراهقة، إذ شكل كتابه “المقالات” بالنسبة إليه نوعا من أنواع السيرة، فاكتشف من خلال ملاحظاته مشاغلَه وتجاربه، كما تعرف عليها من خلال تساؤلاته بخصوص المواضيع العادية مثل واجبات الصداقة، وحدود التربية، ومتع العيش في الريف، وأيضا من خلال تحاليله للحالات الخارقة المتمثلة في طبائع أكلة لحوم البشر، وهوية المخلوقات العجيبة.
وكان مونتاني يقول إن معرفته تقوم على التجربة الميدانية وليس على الكتب وحدها، وهو يعتقد أن الإنسان يستعين بالخيال لكي يواجه مصاعب الحياة، لذلك فإن جل الاختراعات كانت متخيّلة في البداية، وقد يحتاج الإنسان إلى وقت طويل وإلى تجارب كثيرة يكون مآلها الفشل، قبل أن يتوصل إلى تحقيق ما كان يدور في خياله.
الأنظمة التربوية الحالية ترفض في مجملها الاعتراف بالقسم الثاني من تساؤلاتنا وغير معنية إلا بالنجاعة المادية والربح المالي
الأنظمة التربوية
ومنتقدا الأنظمة التربوية في الزمن الراهن، يعتبر ألبرتو مانغويل أن الأنظمة التربوية الحالية ترفض في مجملها الاعتراف بالقسم الثاني من تساؤلاتنا. وغير معنية إلاّ بالنجاعة المادية والربح المالي، فلا تهتم بتغذية الفكر لذاته، وبالتمرين الحر للخيال.
كما يشير مانغويل إلى أن هناك كتبا أثرت فيه أكثر من غيرها، وساعدته على فهم نفسه، وعلى تفكيك ألغاز العالم. وإضافة إلى كنتاب مونتاني “المقالات” الذي ظل يعيد قراءته على مدى سنوات طويلة، يذكر أيضا كتاب “أليس في بلاد العجائب”، وقصص بورخيس، و“دون كيخوتي”، و“ألف ليلة وليلة”، و“الجبل السحري” لتوماس مان.
أما الآن بينما يقترب الكاتب من سن السبعين، فإن الكتاب الذي أصبح يلازمه هو “الكوميديا الإلهية” لدانتي، ذلك أن هذا الكتاب، في رأي المؤلف، هو كما تقول أولغا سيدوكوفا “فنّ يولّد فنّا”، و“فكر يولـد فكرا”، والأهـمّ مـن هـذا كله أنـه “تجـربة تـولد تجربة”، ثـم إن “الكوميديا الإلهية”، في رأيه، كتاب مسكون بالأسئلة من بدايته إلى غاية نهايته، وهي أسئلة كان دانتي يطرحها في مختلف فصول عمله لكي يتعرف على نفسه، ويتعرف على العالم المحسوس وغير المحسوس.